المنبرالحر

اغتيال الجمهورية الاولى.. تراجع لتاريخ العراق المعاصر / صباح جاسم جبر

يعني مفهوم الثورة في الادب السياسي، عملية التغييرات في البنى المؤسسية للمجتمع، وهي تعمل على تغيير المجتمع جوهريا وظاهريا من نمط كان سائدا الى تمط جديد يتوافق..على الاغلب.. مع اهداف ورؤى الثورة وكما يقول الفيلسوف هوبز باوم (( الثورة هي تحول كبير في بنية المجتمع)) وبهذا المعنى فأن ثورة 14 تموز 1958 هي ثورة حقيقية بكل المعايير والمقاييس التاريخية لكونها غيرت معظم أشكال ومضامين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية. كما انها استطاعت ان تغير مجرى التاريخ السياسي على المستوى الاقليمي والدولي،لا سيما أثرها الكبير على الولايات المتحدة وبرطانيا، وانعكست اثارها ونتائجها في الاشهر الاولى من نجاحها على الحياة الاجتماعية والسياسية. وقد ظهر ذلك جليا في قوة النسيج الاجتماعي وانحياز الجماهير الشعبية العريضة ووقوفها الى جانب الثورة وقيادتها والانتصار لهما.
وكما قال ماركس بحق من ان الثورات «هي قاطرات التاريخ» فأن ثورة 14تموز 1958 كانت أحدى قاطرات القرن العشرين لما نجم عنها من تطورات تاريخية هائلة شملت كافة الاصعدة الحياتية، وانعكست بقوة على شكل ومضمون العلاقات الانسانية والمجتمعية والثقافية والاقتصادية، ومثلت انعطافة حاسمة وكبرى في تاريخ الشعب العراقي، لا سيما في ضمير ووجدان الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة.
لقد اهتمت ثورة 14 تموز منذ البدء بتأسيس مبدأ المواطنة والعراق اولا مع المحافظة على الانتماءات والهويات الفرعية والثانوية كمكونات اجتماعية والعمل على بناء مشروع حقيقي لدولة حديثة ذات مؤسسات دستورية وبعد ان كانت وبحسب المؤرخ الكبير حنا بطاطو (( لم يكن العراقيون شعبا واحدا او جماعة سياسية واحدة )) لقد تعاملت ثورة 14 تموز مع المجتمع العراقي حسب الانتماء الوطني للعراق وبصرف النظر عن الانتماء العرقي او الديني او المذهبي, هذه الانتماءات التي كانت سائده قبل بزوغ فجر 14 تموز.
لقد وضعت ثورة تموز المجتمع العراقي على سكة الحداثة لما شهدته البلاد من تطورات سريعة وفتحت آفاقاً رحبة في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والثقافية وانعكس ذلك على بقية العلاقات في محاولة لخلق نوع من التوازن بين الدولة والمجتمع من خلال تبني عقد اجتماعي بينهما مؤسس على قواعد العيش المشترك ويعكس واقع التركيب الفسيفسائي للمجتمع العراقي.
ان ثورة 14 تموز 1958 كانت حلا راديكاليا لطائفة من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي كانت تعصف بالبلاد والمجتمع. وقد احدثت أرباكا في الوضع السياسي لمنطقة الشرق الاوسط وعلى الصعيد العالمي. كما غيرت في موازين القوى وفي معادلات الصراع الدولى المحتدم آنذاك وعرضت مصالح ومواقع الدول الرأسمالية الكبرى ((امريكا وبريطانيا)) الى صدمة كبيرة، حيث قارن الرئيس الامريكي ايزنهاور أحداث ثورة 14 تموز باحداث الثورة الصينية اذ قال في مذكراته (( في صبيحة 14تموز 1958 تلقيت صدمة أنباء الانقلاب في بغداد ضد النظام الملكي الهاشمي، هذه البلاد التي كنا نعتمد عليها..0 وإن تحول الاحداث بهذه الصورة المعتمة قد يؤدي الى ازالة النفوذ الغربي في الشرق الاوسط)).
إن ما أحدثته ثورة 14 تموز من تغيرات سياسية كبرى وغير متوقعة في المنطقة وإصرارها على اتباع سياسات وطنية وغير خاضعه لأي طرف أقليمي او دولي.. دفع بالقوى الإمبريالية إلى البحث عن طريق للخلاص من الثورة وإنجازاتها ومن الزعيم والقوى التقدمية معا، وقد وجدت ضالتها في حزب البعث وبعض الأطراف القومية وبقايا الإقطاع وقوى كردية، وبعض رجال الدين ((سنية وشيعية )) ودفعها الى التعاون برعاية الإمبريالية الأمريكية لإسقاط ثورة 14 تموز والتخلص من نتائجها ومتغيراتها, وقد أكد ذلك الدكتور عقيل الناصري في «سباق المسافات الطويلة» حيث قال (( على خلفية هذا الوضع وما أفرزه من توترات وصراعات ومن حركات استقطابات ومن مخاوف واستفزازات, تحالفت القوى المتضررة من الثورة مع القوى الخارجية.. التي كانت بدورها تبحث عن أدوات جديدة لها لتنفيذ قرار أسقاط تموز/قاسم )) بصرف النظر عن الأسلوب وعواقبه والعنف ودمويته. لقد تماثلت أهداف الامريكان وحزب البعث في القضاء على الزعيم عبد الكريم قاسم وإبادة القوى التقدمية المتمثلة بالحزب الشيوعي العراقي وبعض الشخصيات الوطنية، وتشير بعض الأحصائيات الى أن عدد الذين استشهدوا من الحزب الشيوعي العراقي يقارب (الخمسة الاف شهيد شيوعي) باستثناء المعتقلين والمغيبين.
بعد أن استلم حزب البعث السلطة في - 8 شباط 1963 – التي كانت هدفه الأسمى بدأ بممارسة أبشع أساليب القمع والتقتيل والتنكيل والاغتصاب بحق أعضاء الحزب الشيوعي العراقي وأصدقائهم وضد القوى الوطنية الأخرى، واستمر طيلة أكثر من ثلاثة عقود في ممارسته الشوفينية والبربرية في القتل والتعذيب وإشاعة روح الكراهية وخلق حالة من انعدام الثقة حتى داخل الأسرة الواحدة، والعمل على شن حرب في الداخل والخارج، حيث أدخل العراق في أتون حرب مع ايران امتدت إلى ثماني سنوات أزهقت فيها الأرواح وبددت فيها الأموال وتعطلت فيها الحياة وارتفعت فيها مناسيب الموت والدمار ثم الحصار الأقتصادي الذي فرض على الشعب العراقي في أعقاب غزوه الكويت.
لقد أصبحت الصورة العراقية قاتمة وسوداوية في ظل البعث و (قائده الضرورة), حتى اطلق على العراق اسم (جمهورية الخوف ) تعبيرا عن الرعب وأشكال الظلم والأضطهاد والموت والدمار وشيوع ظاهرة الخوف الشامل في المجتمع، وأدى ذلك الى تخريب الحياة الانسانية والانحطاط في الثقافة والآداب وفي حقول التربية والتعليم والتدهور الحاد في مجال الصحة وفي المستوى المعيشي والأضرار بمصالح الشعب.