المنبرالحر

في ذكرى صدور قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 (رؤية قانونية) / هادي عزيز علي *

من النادر ان تجد بلدا تتشابك فيه النصوص التشريعية للملكية العقارية كالعراق, فلكثرتها يصعب في بعض الاحيان الالمام بها حتى من المختصين. ويعزوا البعض ذلك الى الحقب التاريخية المختلفة التي تعاقب فيها اولى الامر على هذه الرقعة الجغرافية من العالم واختلاف الرؤى لديهم لموضوع الملكية. وابتداء من الغزو الاسلامي الذي رسخ مصطلح (بيت المال) وحشر الاراضي الزراعية في ذلك البيت, مرورا بالقرون الطويلة الكسولة للحقبة العثمانية, ثم الاحتلال البريطاني الباحث عن الاتباع والمريدين, وما اعقبه من حكم وطني في عشرينات القرن الماضي حتى وصولنا الى ثورة 14 \ تموز \ 1958 .
في بواكير العهد العثماني واستنادا إلى المفهوم الاسلامي للملكية فان الاراضي الزراعية الواقعة خارج حدود المدن والقرى تعود عائديتها الى بيت المال، والتى حازت وصفا قانونيا بعدئذ تحت عنوان (الاراضي الاميرية الصرفة). وعمد العثمانيون على تفويض قسم من تلك الاراضي الى الافراد، اي ان لهؤلاء الافراد حق التصرف بالارض مع بقاء رقبتها لبيت المال. وقد نظمت الدولة العثمانية هذا الحق العيني بقانون صدر سنة 1858 م، وسجل هذا الحق بأسماء الافراد في سجلات الطابو (التسجيل العقاري).
بقيت مساحات واسعة من تلك الاراضي خارج مصطلح (المفوضة بالطابو)، وقسم من تلك الاراضي قريبة من الانهار، اذ تمكنت بعض العشائر من وضع اليد عليها عنوة وخلافا لرغبة الدولة العثمانية وسجلاتها الامر الذي الجأ الدولة العثمانية الى الاقراربواقع الحال هذا، الا ان واقع الحال هذا لم يخل من مشاكل جدية بين العشائر والدولة، او بين العشائر نفسها حول حيازتها والانتفاع بها، الامر الذي دفع الدولة العثمانية ولمعالجة الامر إلى ان تصدر تشريعا لتسجيل تلك الاراضي باسماء الشاغلين ضمن اعتبارات تضمنها ذلك التشريع، الا ان هذا التشريع لم ير النور في العراق بسبب الحرب العالمية الاولى وحيرة الرجل المريض بحاله. وعند مجيئ المحتل الانجليزي ورغبة منه في تسجيل الاراضي الى مريديه والمتعاطفين معه فقد اصدر البيان رقم 23 لسنة 1920 والمعروف باسم بيان (تحديد وتسجيل الاراضي), الا ان العمل بهذا البيان اوقف عند اندلاع ثورة العشرين.
بعد تشكيل الحكومة العراقية التي واجهت المشكلة نفسها فقد استعانت بالخبير الانجليزي في شؤون الاراضي السير (ارنست داوسن) الذي درس واقع الحال للاراضي الزراعية واسباب المشاكل والنزاعات بعد ذلك رفع تقريره الى الحكومة حينئذ سنة 1930، وعلى اساس تلك الاقتراحات صدر القانون رقم 50 لسنة 1932 قانون تسوية حقوق الاراضي، واعقبه قانون تسوية حقوق الاراضي 29 لسنة 1938 الذي الغى القانون الاول، اذ اعتبر قانون التسوية : الارض الاميرية المفوضة بالطابو هي لمن تصرف فيها بالغرس او الزرع حسب التعامل المحلي مدة لا تقل عن عشر سنوات مع توفر الشروط القانونية المطلوبة، اما اذا كان التصرف يقل عن عشر سنوان فان الارض تمنح باللزمة وهو المصطلح المعروف قانونا بعدئذ بـ (الاراضي الممنوحة باللزمة).
وعلى هذا الواقع التشريعي فقد اصبحت هناك ثلاثة انواع من الحقوق العينية الاصلية الاساسية وهي : حق الملكية، والاراضي الاميرية المفوضة بالطابو، والاراضي الاميرية الممنوحة باللزمة تضاف إليها الاراضي الموقوفة سواء كانت وقفا صحيحا ام وقفا غير صحيح، والاراضي المتروكة فضلا عن اراضي الموات التي الغيت بموجب قانون التسوية. وقد حرص المشرع على اعتبار حق الملك الصرف اقوى من حق المفوضة بالطابو، وان الاخير اقوى من الممنوحة باللزمة. هذا واقع حال الاراضي الزراعية، اما من حيث الملكية فإن الاحصاءات تشير الى ان 2في المائة من الحائزين لتلك الاراضي يستولون على 68في المائة من مجموع الاراضي الزراعية.
هذا هو الوضع القانوني لحيازة الاراضي تشريعا وواقع حال . يضاف الى ذلك ان العلاقات الزراعية التي جعلت الاقطاعيين ورؤساء العشائر الحائزين لتلك الاراضي يتعاملون مع الفلاحين وأسرهم معاملة تقرب الى معاملة الاقنان. وامام هذا الوضع المعقد والمربك للمسالة الزراعية وقفت ثورة 14 \ تموز \ 1958 متفحصة لهذا الوضع القانوني والاجتماعي وهي لم تزل في بداية مشوارها السياسي، مستعينة بالارث الجماهيري المطالب بمعالجة المسالة الزراعية ، اذ لم يمض على انبثاق الثورة سوى شهر ونصف حتى بادرت الى اصدار قانون الاصلاح الزراعي 30 لسنة 1958 المنشور في الوقائع العراقية بالعدد44 في 30 \ ايلول \ 1958، وبقراءة للقانون نسجل الملاحظات التالية :
اولا –التصدي لحق الملكية المطلق- القانون المدني العراقي من القوانين القليلة جدا التي تعتبر (الملك التام، من شأنه ان يتصرف المالك تصرفا مطلقا فيما يملكه عينا ومنفعة واستغلالا...) المادة 1048 من القانون المدني، والحق المطلق هذا المتماهي مع النزعة الفردية المطلقة اقتبسه المشرع العراقي من القانون المدني الفرنسي الذي اصدره نابليون عام 1804 والذي تخلت عنه الدول بعدئذ بما في ذلك فرنسا لصرامته ولحركة المجتمعات المستمرة التي نظرت الى الوظيفة الاجتماعية للملكية والتي لم يعد بموجبه حق الملكية حقا مطلقا، وهذا ما جنح اليه الدستور المؤقت الذي اصدرته الثورة في 27 \ تموز \ 1958 اذ نصت المادة 13 منه على : (الملكية الخاصة مصونة وينظم القانون اداء وظيفتها الاجتماعية ولا تنزع الا للمنفعة العامة مقابل تعويض عادل وفقا للقانون). اذن فالمشرع العراقي اعتبر قانون الاصلاح الزراعي المستند الى الدستور المؤقت صادرا على وفق احكام المنفعة العامة اولا، فضلا عن كونه كسر صرامة النص الذي يعتبر الملكية حقا مطلقا، وهو بهذا اجاز وجود قيد جديد للملكية ما دام ذلك القيد يندرج تحت مصطلح النفع العام .
ثانيا –الحد الاعلى المقرر قانونا - الملكية وقبل صدور القانون لم يكن لها حد ، اذ بإمكان الشخص امتلاك ما يشاء من الاراضي الزراعية ومهما بلغت مساحتها اذا وجد الى ذلك سبيلا ، لذلك تجد شخصا ما يملك الاف الدونمات من الاراضي الزراعية، وبصدور القانون فقد وضع حدا اعلى للملكية الزراعية وهي (1000) دونم للاراضي التي تسقى سيحا او بالواسطة، و(2000) دونم بالنسبة للاراضي التي تسقى ديما (مطرا). ولا يجوز باي حال من الاحوال ان تزيد الملكية عن الحد الذي وضعه القانون واي زيادة تعتبر باطلة وتمتنع دوائر التسجيل العقاري عن تسجيلها.
ثالثا – الاستيلاء عما زاد عن الحد الاعلى -الزمت نصوص القانون الجهات التفيذية (لجان الاستيلاء والتقدير) الاستيلاء على ما زاد على الحد الاعلى المقرر قانونا وتسليم الاراضي المستولى عليها الى الادارة المؤقتة، وعلى الاخيرة ان تقوم بتأجير الاراضي للفلاحين، وبمساحات معينة نص عليها القانون، وكانت مهمة الاصلاح الزراعي في هذه المرحلة الانتقالية الادارة المؤقتة إلى حين استكمال اجراءات التوزيع على الفلاحين باعتبارهم مالكين جدد. واشترط القانون على لجان التعاقد شروط عدة يجب توفرها لغرض اجارة الاراضي الزراعية.
رابعا –العلاقات الزراعية الجديدة– بدأت العلاقة الزراعية الجديدة من الموسم الشتوي لسنة 1958 ووضعت لها احكاما يجب على الفلاح الالتزام بها وهي حراثة الارض وزراعتها وحصاد المحاصيل الحقلية ونقلها الى البيادرودراستها وتذريتها واعدادها للتسويق وسواها من الالتزامات الاخرى. هذه العلاقة الجديدة بين المزارع والدولة تشكل انعطافا كبيرا في حياة المزارعين من خلال تحريرهم من الحالة القريبة من حالةالاقنان التي كانت سائدة قبل صدور القانون, الى العلاقة المتكافئة مع الدولة، وهنا نسجل ملاحظاتنا عن هذا الموضوع الذي لم ينل الاهتمام المطلوب من الدراسات الانثروبولوجية او الاقتصادية او ما سواها من الدراسات الاخرى المتعلقة بتطور الانسان والاقتراب من نيل حقوقه، ما عدا النزر اليسير من الكتابات, منها ككتاب الاستاذ مكرم الطالباني الموسوم : (في سبيل اصلاح زراعي جذري في العراق).
خامسا- مشاكل الاراضي الزراعية في الناصرية والعمارة- قلنا ان النصوص القانونية التي تناولت المسألة الزراعية في العراق متشابكة، ومتشابكة فعلا، فالناصرية والعمارة لهما وضعهما الخاص المختلف عن بقية ألوية (محافظات) العراق. ففي الناصرية فوضت السلطات العثمانية حينئذ اشخاصا معنيين واصدرت لهم سندات طابو لمساحات واسعة من الاراضي الزراعية، ولكن العشائر الحائزة على تلك الاراضي لم تعبأ بتلك السلطات وسنداتها الممنوحة للغير، وابقت تلك الاراضي تحت حيازة العشائر المذكورة. وعندما احتل العراق من قبل الانجليز بعد الحرب العالمية الاولى، ووجد هذه المشكلة قائمة، فقد عمدت سلطات الاحتلال الى تخصيص 7,5في المائة، من حاصل الارض إلى اصحاب السندات كبدل ايجار عن الاراضي الاميرية المفوضة لهم على ان تستوفى من قبل الحكومة من المتصرفين الفعليين وتسلمها إلى اصحاب السندات، الا ان هذا الامر لم يحسم بشكل نهائي حتى مجيء قانون الاصلاح الزراعي الذي عالج هذ الوضع في المادة 29 من القانون، كما انه ملك ذوي الحقوق التصرفية وبحدود معينة بينها القانون، وهم كل من السركال الرسمي والحصاص وصاحب المضخة وصاحب المحرم والنكاش والمغارس.
اما في العمارة – لقد جرى العمل في العمارة انذاك على ان تقوم الحكومة بايجار مساحات واسعة جدا من الاراضي الاميرية الصرفة الى كبار المزراعين(شيوخ عشائر عادة) يطلق عليهم اسم (الملتزم الاولي). ويقوم الملتزم الاولي هذا بتقسيم مقاطعته الى اقسام يؤجرها الى اشخاص اخرين يسمون: (الملتزم الثانوي)، ويقوم هؤلاء باستخدام الفلاحين في زراعة الارض التي تحت حيازتهم، وكان لهؤلاء ووفقا لاحكام التقادم الحق بموجب قانون التسوية في حينه اكتساب حق تفوض الارض بالتقادم او حق اللزمة، فضلا عن ما تقدم فان للملتزم الاولي الحق في ان يخصص مساحة معينة من مقاطعته لرجل الدين الذي يقوم بالخدمات الدينية لعشيرته على ان يستغل رجل الدين تلك المساحة لنفسه ويسمى رجل الدين بـ (صاحب المحّرم) ،وقد تمت معالجة هذا الامر بقوانين لاحقة وبالاستناد الى قانون الاصلاح الزراعي.
سادسا – وظائف اخرى للاراضي المستولى عليها - - ان الاراضي المستولى عليها والزائدة عن الحد القانوني المقرربموجب القانون، لم يقتصر توزيعا على المزارعين والفلاحين، بل ان قسما منها خصص لمشاريع عامة وتعاونية او للمراعي، او للمنشآت ذات النفع العام او تمليكها الى الجمعيات التعاونية او الشركات الصناعية، او توزيعها الى خريجي الكلية الزراعية او المدارس الثانوية الزراعية او تستعمل للاستبدال، وسواها من النشاطات الاخرى.
سابعا – ان القانون وكما اسلفنا وجد علاقات جديدة للمزارعين كانت الدولة احد تلك الاطراف الفاعلة بدلا من العلاقات شبة الاقطاعية التي كانت سائدة قبل تشريع قانون الاصلاح الزراعي، انه كان احد اللبنات المهمة لتاسيس الدولة المدنية، وكادت نصوصه – حسبما ذهبت الى ذلك ارادة المشرع – ان تجعل من شيخ العشيرة مالك الارض مخلوقا منقرضا بعد ان سلبته العديد من سلطاته، ولكن لولا الوضع الفاعل لخصوم الثورة واستعانتهم بكل ما من شأنه ان يثبط اهداف القانون ويعرقله بما في ذلك الاستعانة بالاجنبي الذي اوقع الوطن في مأزقه ومعاناته ووجعه الذي استمر الى يومنا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* قاض وباحث قانوني