المنبرالحر

طيف ماركس الذي لا يختفي ( الجزء الاول ) / قصي الصافي

(لئلا ينزلق المستقبل من بين ايدينا، علينا أن نقرأ ونعيد قراءة ومناقشة ماركس على الدوام)
جاك دريدا……… من كتابه شبح ماركس Marx's spectre
اختلف الاكاديميون والمثقفون حول تراث كارل ماركس مع إنهيار التجربة السوفيتية، وإعلان فوكوياما المتعجل بان التاريخ قد ختم رحلته إلى الابد في محطة الليبرالية الجديدة، فاللبراليون والتائبون من الماركسية يرون أن أفكاره قد عفا عليها الزمن، ويحملونه وزر فشل التجربة السوفيتية، وكأن المسيح يتحمل مسؤولية التسلط الكنسي في القرون الوسطى أو اغتصاب الأطفال فى الكنائس الامريكية، أما الماركسيون الاورثوذكس فيرونه مفكراً معصوماً لا يخطئ أبدا. حين قال ماركس " أنا لست ماركسيا " كان يعلم أن الانغلاق الايديولوجي سيجعل منه إماماً معصوماً، الانغلاق الذي لم يعرفه أبداً، فهو الذي أعلن مراراً تأثره بالمفكرين الرأسماليين كآدم سمث وريكاردو.
لأولئك الذين ينكرون راهنية ماركس أقدم محاولتي المتواضعة لمناقشة بعضاً من موروثه الغني، والذي مازال يقدم الاجابات على الكثير من أسئلة واقعنا المعاصر، وسيقتصر المقال على موضوعي شركات المساهمة المحدودة ج 1 و الازمة الاقتصادية الاخيرة.ج 2
شركات المساهمة المحدودة : ( Limited Liability Companies ,LLC)
عقب أحداث 11 ايلول وجه بوش مواطنيه بقوله ( توجه إلى الاسواق وتبضع بقدر ما تستطيع، هكذا نهزم الارهاب ) وقد كان هذا التصريح مثار سخرية الاعلام، إلا ان بوش يدرك ما يقول، فزيادة الاستهلاك وتخفيض نسبة الربح على الديون تؤدي إلى تنشيط التجارة ومضاعفة الانتاج، وهذا بدوره يوفرفرصا اكبرللعمل مما يعني زيادة في السيولة المالية للمواطنين تترتب عليها زيادة في الاستهلاك وهكذا تعاد دورة راس المال، ولكن هل يستمر هذا الى ما لانهاية؟، من هنا يرى ماركس ان إصرار الاقتصاديين الرأسماليين على الحلول المالية دون المساس بآليات النظام انما يبذر في تلك الحلول بذرة لأزمة قادمة ( كما سيتضح عند مناقشة الأزمة الاخيرة في الجزءالثاني من المقال).
من نافل القول أن حركة راس المال تنعش الاقتصاد الرأسمالي وان شحة الاستثمار تصيبه بالركود، وقد كان الاستثمار في منتصف القرن التاسع عشر شحيحا بسبب العواقب القاسية لفشل المشاريع، فاذا ما أفلس مشروع استثماري وتراكمت عليه الديون لا يفقد الرأسمالي رأسمال المشروع فقط، بل يلاحق قانونياً لتسديد الديون ببيع كل أملاكه و بيته وان لم تكف فالسجن مصيره، وهذا ما جعل أصحاب رؤوس الاموال المحدودة يترددون في الاستثمار مما سبب ركوداً في الاقتصاد.
استجابة لتلك الازمة كرس ماركس سلسلة من مقالات نشرها فى نيويورك تربيون عام ١٨٥٦ م داعياً لسن قوانين تسمح لجميع الشركات بتعزيز رأسمالها عبر بيع الاسهم للمواطنين, على أن توزع الارباح حسب عدد الاسهم، وعند خسارة الشركة وغرقها في الديون فان حاملي الاسهم يخسرون قيمة اسهمهم فقط ولا يتحملون ديون الشركة، على اعتبار انهم لا يساهمون في ادارة الشركة وصناعة القرارات، فتلك مهمة الملاك الرئيسيين والمدراء التكنوقراط، ولذا فان حاملي الاسهم ليسوا مسؤولين عن سوء الادارة والمخاطرة برأسمالها ولا يتحملون عواقب ذلك. كما اوضح ماركس ان العمل بذلك سينقل الرأسمالية الى طور جديد يزدهر فيه الانتاج ويعاد توزيع الثروة باقتسام فائض القيمة بين اعداد كبيرة من المواطنين بدلا من رأسمالي واحد. عرف العمل بنظام الاسهم ضمن مسؤولية محدودة في القرن السادس عشر ولكن ضمن نطاق محدود جداً، فقد اقتصر على الشركات الكبرى والتي حظيت برخصة خاصة من ملك بريطانيا كشركة الهند الشرقية وشركة فرجينيا-لندن والمصرف المركزي الفرنسي Credit Mobilier بترخيص من نابليون الثالث. دعوة ماركس لتعميم النظام على جميع الشركات قد واجهت معارضة شديدة من قبل الاقتصاديين الرأسماليين زاعمين أن قوى السوق الداخلية كفيلة بتصحيح مساره ذاتياً وان اي تدخل من قوى خارجية كالدولة إنما تربك آليات عمل السوق ( النغمة التي يرددها الليبراليون الجدد اليوم) ، وان الرأسمالي لا يمكن ان يحقق النجاح ما لم يدر أعماله بنفسه ويتحمل مسؤولية قراراته الذاتية.
صدر عام ١٨٥٦ عن البرلمان البريطاني قانون يسمح لاي مجموعة لا تقل عن ٧ أشخاص لتسجيل شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة و كان ذلك نقطة تحول كبرى في مسار التطور الصناعي ، وقد توالت دول اوربا في اقرار قوانين مماثلة. معظم الشركات التي نعرفها اليوم بما فيها الشركات العابرة للقارات تتبع نظام الاسهم ضمن المسؤولية المحدودة محمية بتلك القوانين، ويجمع الاقتصاديون بأن الاقتصاد الرأسمالي لم يكن ليبلغ ما عليه من ازدهار لولا تلك الصيغة من الشراكة و بالطبع دون الاشارة إلى دور ماركس. تجدر الاشارة الى أن ماركس لم يكن غافلا عن الآثار الجانبية التي ستعقب بناء هذا النوع من الشركات وما قد تحدثه من أزمات إلا أنه يرى أن النظام الرأسمالي ميال الى الأزمات على أي حال.
في مقال من ثلاثة أجزاء بعنوان Credit Mobilier وآخر بعنوان الأزمات الاوروبية 1856 م ، أوضح ماركس ان طبيعة علاقات الانتاج في النمط الرأسمالي تبيح للمدراء التنفيذيين ( أصحاب أكبر الاسهم ) بالثراء على حساب أرباح حملة الاسهم الصغار واجور العمال وموظفي الشركة ، ومن المدهش ان تصوراته وتوقعاته ما زالت تجد راهنيتها جلية فيما يشهده الاقتصاد المعاصر، ومن طرق الاثراء التي يذكرها:
ا- اقتطاع المدراء التنفيذيين رواتب ومكافآت خيالية لأنفسهم حتى في حالة تدهورعمل الشركة التي يديرونها، مع إعطاء صورة وهمية متفائلة لحملة الاسهم عن نمو مزعوم للشركة.
خلال الفترة من 1970 إلى الآن ( حسب Economic policy Institute ) ارتفعت رواتب ومكافآت المدراء التنفيذيين( CEO ) في أميركا ٩ أضعاف على الاقل، بينما انخفضت اجور العمال إلى الثلث مع الأخذ بنظر الاعتبار مستوى التضخم أو ببساطة غلاء المعيشه والقدرة الشرائية للدولار ( إيجار شقة مثلا يكلف العامل 10 أيام عمل في السبعينات بينما يكلف إيجار نفس الشقة اليوم أكثر من شهر عمل ). في أعقاب أزمة الكساد الاخيرة بلغت مكافآت المدراء التنفيذيين مستويات فضائحية مما إضطر اوباما للتصريح علناً أن ذلك يشير الى أزمة أخلاقية بين أثرياء الوول ستريت، ومن المفارقات الصادمة أن مدراء تلك الشركات واستناداً لما يقدمونه من معلومات مفبركة عن ‎شركاتهم قد انتزعوا لها درجات تقييم عالية جداً، فالشركة العالمية للتأمين AIG مثلاً بقيت تتمتع بتقييم AA حتى قبل يومين من انهيارها!!، هل يختلف هذا الواقع عن تحليلات وتوقعات ماركس التي ذكرناها أعلاه؟؟
2- تحدث ماركس أيضاً عن المضاربات المالية بالاسهم عن طريق بيع واعادة شراء الاسهم و بوليصات التأمين والسندات المالية في استثمارات قصيرة الامد لانتاج ما يسميه الرأسمال الوهمي بدل الاستثمارات طويلة الامد لتطوير الانتاج وتحقيق رأسمال حقيقي.
أجمع الاقتصاديون اليوم ان أحد أهم أسباب الانهيار الاقتصادي عام 2007 م المضاربات المالية والتي أتاحت التكنولوجيا الحديثة وسرعة تنقل رأس المال خلق سبل متعددة للاستثمارات قصيرة الأمد لكسب الربح السريع أي رأسمال وهمي دون عمل
مثل المشتقات Derivatives، الاتجار بكفالات الديون‏ CDOS ، والمقامرة بالسندات المالية swaps . . . .. إلخ.
3- أشار ماركس أيضاً إلى قيام المدراء التنفيذيين بفتح حسابات وهمية للتلاعب والمضاربة بأسعار الاسهم والأرباح.
تم الكشف قبل شهور عن فضيحة قيام موظفين كبار في مصرف ويلز فاركو Wells fargo الأمريكي بنقل الأموال من حسابات الزبائن الأصلية الى ملايين الحسابات الوهمية دون موافقة أو حتى علم الزبائن وذلك للحصول على مكافآت بينما يتحمل الزبائن الضرائب والجزاءات أوالأرباح على حساباتهم الأصلية لنقص الارصدة فيها، وقد بلغت خسائر الضحايا 2.4 مليون دولار.
يبدو أن طيف ماركس يلحّ في حضوره وسط فوضى السوق وكأنه يقول " ألم أقل لكم ذلك قبل 160 عاماً؟؟