المنبرالحر

نوافذ شيوعية / ضياء العكيلي

بين عامين 1948-1950 ومنذ الأيام الأولى لوثبة كانون، كنتُ قد سمعتُ ولأول مرة عن الشيوعية والحزب الشيوعي، يوم انتفض شعبنا العراقي المجيد عن بكرة أبيه ضد محاولة إبرام معاهدة بورت سموث الجائرة وحيث كان الشيوعيون في الصدارة. كنتُ آنذاك طالباً في المرحلة الدراسية المتوسطة ومنحدراً من عائلة ميسورةَ الحال من ملاكي الأراضي، لم أشعر يوماً بالجوع ولا العرى كما كان يعاني منهما ملايين العراقيين. وكنت أُسائل نفسي وبعفوية خالصة، لماذا يا تُرى هذا التفاوت في حياتنا ونحن أبناء جنس واحد وبلد واحد، كنت ألبس أفخر الملابس وكان من يصنعُها يلبسُ الأردأ، كنت أتناولُ أحسنُ الأطعمة في حين كان من ينتجُها لا يتناولُ سوى بقايا ما نرميه.. لم أدرك في حينه الأسباب، إلى إن علمت إن للشيوعية رأي في هذا… ولغرض الوصول إلى معرفة أسباب هذا التفاوت، تقربت شيئاً فشيئا من الشيوعيين خطوتين للأمام وخطوة إلى الخلف. عرضت صداقتي مع بعض الطلاب الشيوعيين الذين كنت أزاملهم آنذاك في إعدادية الكاظمية وأخص منهم طيبي الذكر شاكر أملح وفاضل الوردي والحمد لله مازالوا أحياءً حتى الآن.. رحبوا بيّ وفتحوا ليّ قلوبهم وبدأت أتعرفُ منهم ما أردت معرفته وكانت البداية.
عرفت منهم معنى الوطنية بداية ومن ثم الشيوعية، عرفت منهم إن الشيوعي يجب أن يكون قدوة لأبناء شعبه في حُبه لوطنه وأكثرهُم استعداداً للتضحية في سبيله، مُحباً لشعبه وشعوب العالم أجمع، دون النظر إلى الموقع الجغرافي والعرقي والديني والمذهبي وأن يكون داعياً متنوراً إلى الاشتراكية كنظام يحقق العدالة والمساواة والحياة الإنسانية للبشر وذلك باعتماد النظرية الماركسية وقواها الفاعلة الطبقة العاملة وحلفائها الفلاحين وشغيلة الفكر.
بدأت شيئاً فشيئا أستوعب المتغيرات الجديدة في حياتي السياسية وأتقرب فكرياً وتنظيمياً أكثر فأكثر من الأفكار الشيوعية وأقرأ ما أستطيع فهمه من المبادئ الماركسية، وما يكتب من آراء في السياسة والحركة الوطنية ومقارعة الاستعمار ومشاريعه وكنت أشارك في نقاشات مع وضد الشيوعية والشيوعيين.
أعود إلى وثبة كانون، فبعد أن حققت هدفها الأول في إسقاط حكومة صالح جبر التي حاولت إبرام معاهدة بورت سموث فقد أصاب الخدر بعض القوى السياسية التي شاركت في الانتفاضة، نشوة النصر وارتضت بالقليل مما كان يجب أن يتحقق واستكانت ولم تكمل المسيرة في تحقيق كامل أهداف الجماهير في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ولم يكتف بعض من هؤلاء بما أقدموا عليه من تخاذل حتى وصل الأمر بهم إلى الاعتداء على التظاهرات التي استمرت تطالب بتحقيق كامل أهداف الوثبة بل وأكثر من ذلك أقدموا على الاعتداء على مسيرات تشييع الشهداء الذين سقطوا برصاص السلطة، الأمر الذي شجع أذناب الاستعمار من الحكام الذين لم ينالوا جزائهم كما يجب وبدأوا الهجوم المعاكس الشرس على الجماهير وكان الحزب الشيوعي برفاقه وجماهيره الواسعة أولَ من نالتهُم سهام الأعداء من اعتقالات وتعذيب وسجن وفصل وتشريد حتى تطاول الأقزام على قيادة الحزب وأعدموا قادته فهد وحازم وصارم بتهمة قيادة التظاهرات وهم داخل سجونهم. وكان لهذه الأجساد الطاهرة المعلقة والمرفوعة الرأس، نهاية الفصل الأخير في سيرتي السياسية.. الانتماء أو التريث وكان الانتماء.
وبالرغم من شراسة الهجمة على الحزب وجماهيره فقد تمكن رفاق فهد من الذين إستطاعوا الحفاظ على أنفسهم وصانوا تنظيماتهم وخلال فترة قصيرة، من إعادة نشاط المنظمات الحزبية ولم يغب عن بالهم تقوية الحركة الوطنية أيضاً تحقيقاً للشعار الذي رفعه الرفيق فهد " قووا تنظيم حزبكم قووا تنظيم الحركة الوطنية " لمجابهة هذه الهجمة الرجعية حيث بدأت النشرات السرية تصدر وتوزع في الشوارع والمحلات، كما عاودت الصدور جريدة الحزب المركزية (القاعدة) ورافق عودة نشاط الحزب، نشاط إعلامي على المستوى العربي والعالمي مما أرعب الإمبرياليين وعملاءهم في الداخل فعمدوا بواسطة إذاعاتهم المأجورة وصحفهم الصفراء إلى إشاعات مغرضة لتشويه سمعة الشيوعية والشيوعيين بعد ما فشلوا في مقارعتهم جماهيرياً.. قالوا.. أشاعوا.. كذبوا.
قالوا إن الشيوعيين عملاء للسوفيت وغير مخلصين لبلدهم ولكني عندما تقربت منهم وجدتهم يحبون شعوب العالم أجمع كما وجدتهم أشد الناس حماساً وإخلاصاً لوطنهم وناسهم والأكثر استعداداً للتضحية في سبيلهما، صعدوا المشانق، قُتلوا في ساحات النضال، شردوا وأبعدوا عن عوائلهم ووظائفهم ولم يقولوا أو يفعلوا أي شيئاً ضد بلدهم رغم شتى المغريات التي كانت تعرض عليهم لثنيهم عن وطنيتهم وعقيدتهم. وهذا الإنسان البسيط فهد يردُ على رئيس المحكمة التي كانت تحاكمُه والذي أراد أن يطعن في وطنيته قائلاً له.. أنت شيوعي ولست وطنيا فرد عليه فهد بمنتهى الثقة بالنفس والمبادئ، قائلاً كنت وطنياً وعندما أصبحت شيوعياً تضاعفت وطنيتي.
من هذا النبع الصافي تذوقت طعم الوطنية وانخرطتُ في صفوف هذه النخبة الطيبة مشاركاً إياهم نشاطاتهم متحملاً معهم الفصل والاعتقال والتشريد وهراوات الشرطة ورصاصهم الغادر ولمست عن قرب شجاعتهم في مقارعة أعدائهم وكيف يجب أن يتصرف الشيوعي في المواقف الحرجة وكانت التجربة الأولى..
أتذكرُ ما حدث لي مرة عندما اشتركتُ لأول مرة في تظاهرة نظمها الحزب في بداية الخمسينات، انطلقت التظاهرة من ساحة (الأمين) حالياً الرصافي بأتجاه الشورجة في شارع الرشيد، وقرب سوق الصفافير، تصدت للتظاهرة ثلة من الشرطة المحلية وبدأت بإطلاق الرصاص مما اضطرنا إلى التفرق لأن عددنا كان قليلاً نسبياً. وفي الزقاق المقابل لعكد الجام دخلتُ أحدى الدور حتى لا يلقى القبض عليّ… شاهدتُ امرأة جالسة في ساحة الدار تسقي أولادها الشاي، سلمت عليهم وبادرتني المرأة بالسؤال عن سبب دخولي الدار دون استئذان، أجبتها لأنني سمعت إطلاق نار وشاهدتُ أناس تتراكض، لذا دخلتُ داركُم لأحتمي بها من أن يصيبني مكروه، ردت علي المرأة بلطف ودون أي ارتباك (استريح أبني أهلاً وسهلاً) ثم قدمت ليّ الشاي قبل أولادها.كنت أتلفتُ يميناً وشمالاً أثناء جلوسي فوقع نظري على ملابس ضابط شرطة تحمل ثلاث نجوم معلقة على أحد الجدران. فجأة دخل صاحب الدار مرتدياً دشداشة وسأل زوجته عمن أكون فقالت "دخيل" تقدم الرجل نحوي وسألني فيما إذا كنتُ مشتركاً في التظاهرة فقلت له "كلا"، بعدما تأكد لي أنه ضابط شرطة. تقدم نحوي ساحباً كرسياً صغيراً جلس عليه أمامي وكأنهُ يستجوبني رسمياً أضفتُ لهُ إنني مجرد مستطرق، عاد ليسألُني هل أنت شيوعي ؟ نفيتُ ذلك بحركة من رأسي وقلتُ له أني كنت متجهاً إلى الشورجة وسمعت إطلاق الرصاص فدخلتُ داركُم وها أني مُغادرها الآن ونهضتُ فعلاَ للخروج فاستوقفني قائلاً.. لا ابني أجلس حتى يهدأ الحال وبعدها يمكنك الانصراف، بعدها استفزني بالقول.. أبني "شلك بهاي الشغلة"، "انتوا صغار، مساكين، زعماؤكم يخدعونكم هم الآن يشربون العرك في البارات وأنتُم يرمونكم في السجون"، هنا ثارت كرامتي وشيوعيتي الحديثة العهد وقلتُ له بشجاعة إن زُعماءنا يا أستاذ قد صعدوا المشانق وليس ممن تتحدث عنهم.. ابتسم الضابط وقال أنت شيوعي إذاً فقلتُ له نعم ولكني لا أسمح لك باهانة رفاقي واعتقالي ونهضتُ لأخرج الا أنه استوقفني بلطف وبابتسامة قائلاً يمكنك أن تنتظر حتى هدوء الحالة. وكانت هذه الحادثة الدرس الأول لي في ثوابت مبادئ الشيوعيين وطيبة العراقيين.
ومما أشاعوا أيضاً أن الشيوعية ضد الدين، فوجدتُها مع الدين في محاربة الفقر والظلم.. قالوا ان ماركس قال ان الدين أفيون الشعوب، ولدى مراجعتي لما كتبه ماركس في حينه وجدتُ أن قولهُ مبتور حيث كان ينتقد آنذاك استغلال الكنيسة للدين لتخدير الناس لكي يبعدوهم عن المطالبة بحقوقهم الدنيوية. ولكن لماذا يا تُرى يتجاهل هؤلاء المغرضون ما كانت تتصدر العديد من الصحف اليسارية والشيوعية في تلك الفترة آيات من القرآن الكريم، وما يرد في الكثير من مقالاتها من إشادة بالأديان السماوية وكيف إنها جاءت للدفاع عن حقوق المظلومين ودفعهم لمقاومة الطغات، وكانوا يستشهدون برسالة النبي محمد وأفكار الأمام علي وعدالة الفاروق عمر والثائر الحسين الشهيد..ولم أجد يوماً في أي من النشرات الشيوعية ما يسئ للدين ومبادئه العظيمة.
وجدت عند الشيوعيين النزاهة وسمو الأخلاق..
أتذكرُ مرة ما حدث لأحد الشيوعيين من عائلة الوردي في الكاظمية يوم ضبط جلاوزة الأمن العامة آنذاك هذا الرفيق وهو يحمل (22) عددا من جريدة الحزب السرية (القاعدة) كان يرومُ توزيعها أثناء التظاهرات التي خرجت لتأييد الشعب المصري أبان العدوان الثلاثي عام 1956. سيق هذا الرفيق الى دائرة التحقيقات الجنائية وكانت آنذاك في شارع النهر، ورغم شتى صنوف التعذيب البدني والنفسي، فشلوا في انتزاع أي اعتراف منه على رفاقه، بعدها استدعاه المجرم نائل عيسى معاون مدير التحقيقات الجنائية آنذاك وأخذ يمارس معه أُسلوباً قذراً لدفعه إلى الخيانة.. قدم له الشاي قائلاً لرفيقنا..أنك شاب من عائلة معروفة ووسيم الخلقة والعشرات من الفتيات قد يعجبن بك لو أنك تركت هذا الطريق وسلكت الطريق الآخر كبقية الشباب، ولما لم يرد رفيقنا على هذيان هذا التافه، عاد يسأل رفيقنا بخباثة.. هل لديك صديقة تمارس معها الحب ؟ فرد عليه رفيقنا، ليس لدي الوقت لأضيعه على مثل هذه التفاهات. ثم عاد ليقول له..لابُد من أن لك وقتً للفرفشة وشرب الخمر..فرد عليه رفيقنا، ولا هذا أيضاً، فما كان من هذا المجرم إلا أن لطم وجه رفيقنا بقسوةً وهو ينهق بعصبيةً، لا تشرب ولا تعاشر البنات ويمكن لا تدخن أيظاً، وتقول إنك لست شيوعياً ؛ أية مفخرة وشرف للشيوعيين وبشهادة من أعدائنا بسمو أخلاقهم.
وجدتُ عند الشيوعيين أيضاً نُكران الذات ففي ذاكرتي حادثةٌ تدلل على إيثار الشيوعيين دون غيرهم، كان ذلك في معسكر الشعيبة في البصرة سنة1954 والذي كان يظمُ أكثر من مائة طالب، فصلوا من مدارسهم وأُرسلوا الى هذا المعسكر، صادف أن اُرسل أحد زملائنا الى مدينة الديوانية لمحاكمته جراء تأخره في الالتحاق بالمعسكر. وعند عودته جلب معه سمكة لا يتجاوز وزنها كيلوغرامين، كانت مفاجئة لنا، لأن مادة السمك لم تكن ضمن قائمة الطعام المخصص لنا. على الفور اجتمعت اللجنة القيادية للمعتقلين وقررت أن يتذوق طعم السمك كافة المعتقلين ودون استثناء. تم شواء السمكة الصغيرة من قبل اثنين من زملائنا وقُطعت الى (103) مائة وثلاث قطع هي عدد المعتقلين، كنا في فترة التدريب والعمل، ولما عُدنا الى أسّرتنا، كان رئيس عرفاء المعسكر (رحيم) قد دخل كعادته القاعة الأولى لسكن الطلاب للتفتيش اليومي ففاجئته رائحة السمك غير المسموح به أصلاً في تعليمات المعتقل، ولما هم بتفتيش أسّرة النوم شاهد ما أذهله، قطعة من السمك تكاد لا تُرى بالعين المجردة موضوعة على قطعة الصمون وعلى كل الأسرة، ولم يكن يعلم بعد ان قطع السمك قد دخلت القاعة الثانية أيضاً، استفسر من زميلنا الذي كان متواجد آنذاك عما يجري، فأجابه زميلنا هذه السمكة التي جلبها معه محمود، بعدها خرج رئيس العرفاء هذا من القاعة كالثور الهائج صائحاً على أقرانه من ضباط الصف والجنود " ولكَم تعالوا شوفوا ذوله ( المقراطية) ويقصد الديمقراطيين، شمسوين ؟ ولكم آني بالأول سامع أربعين واحد تشاركوا بزبيبة، ما جنت أصدك، ولكَم والله هسه شفته عند ذوله الويلاد المُقراطية. دُهش الآخرون عندما شاهدوا بأنفسهم الحدث والذي لم نكن نقصد فيه ما آل إليه وأنما مجرد تطبيق عفوي للاشتراكية "إنها الروح الرفاقية الصافية لما تعلمه الشيوعيون من مبادئ الحزب وسيرة قادته.
هنا لا بُد لي من أن أدعوا كل الذين يريدوا أن يعرفوا الحقيقة كاملةً،أن يقتربوا من الحزب الشيوعي وليطلعوا على مبادئه السامية وأفكاره النيرة وليعرفوا ما يريدون، عن قرب وتجربة وكما حصل معي وهذا التاريخ أمامكم خير شاهد.