المنبرالحر

الأقباط ووباء الارهاب في مصر إلى أين ؟ / رضي السمّاك

حينما كنا طلاباً جامعيين على مدارج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في أوائل سبعينيات القرن الماضي كُنا نجد مُتعة سياسية وثقافية لا تضاهيها مُتعة في متابعة برامج المركز الثقافي السوفييتي بالقاهرة ومن ضمنها الافلام الوثائقية السوفييتية وعروض الباليه السوفييتي الحية والندوات والمعارض الفنية التشكيلية ، وإلى جانب تلك البرامج كان يستحوذ على اهتمامنا بشكل خاص الاُمسيات الغنائية التي يحييها الفنان الوطني اليساري عدلي فخري بصحبة الشاعر عدلي فخري على مسرح المركز والتي تغص قاعته بالشباب والطلبة ، وأتذكّر واحدة من أغانيه يقول فيها وكأنه يُحذٰر مُبكراً من المساس يالوحدة الوطنية : " مسلمين ولا نصارى في عروقنا بيسري نيلك .. وإحنا ما دُمنا فُقارة غرقانين في بحر ليلك " .
تذكرت هذا الطيف من ذكريات حياتي الطالبية الجامعية الجميلة في القاهرة إثر وقوع المذبحتين الارهابيتين اللتين ارتكبهما " داعش " يوم الأحد الماضي حيث حوّل فيه أحد أعياد أقباط مصر الدينية إلى مأتم جماعي وذلك أثناء تأدية جمهرة منهم الصلوات في كنيستي " مار مرقس " " بالاسكندرية و "مار جرجس " بطنطا وخلفتا معاً ما يقرب من 50 قتيلاً ونحو 130 جريحاً .
ثمة ثلاث ملاحظات لافتة للنظر تؤخذ في تقديري على التحليلات الإعلامية التي تناولت المذبحتين الارهابيتين :
الأولى : محاولة تعليل ارتكاب " داعش " الجريمتين بموقف الأقباط المؤيد لعزل الرئيس السابق " الإخواني " محمد مُرسي وتأييدهم للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي ، وهذا مجافٍ للحقيقة ذلك بأن الاقباط مثلما شاركوا أشقاءهم المسلمين في ثورة يناير 2011 الشعبية التي أفضت لعزل الرئيس مبارك فقد شاركوا أيضاً جنباً إلى جانبهم في انتفاضة 30 يونيو 2013 التي أطاحت الرئيس " الإخواني " مُرسي قبل أن يفصح الرئيس الحالي السيسي عن نيته لاحقاً للترشح لرئاسة الجمهورية ، ثم ان " داعش " ليس بحاجة لأن يبحث في تخطيطه لاعماله الانتحارية الارهابية التي تطاول مئات المدنيين الابرياء عن أسباب سياسية آنية يبرر بها عملياته ، فهو لايستهدف غالباً في جُل جرائمه الارهابية سواء بحق المدنيين الابرياء في العراق وسوريا ام خارجهما إلا فئتين على الهوية الطائفية الأولى هي المسيحيون والثانية أتباع المذهب الجعفري ، علماً ان نسبة ضحايا الفئة الثانية وبخاصة في العراق هي الاعلى من مجمل ضحايا العالم في تفجيرات داعش الانتحارية منذ 10 سنوات ونيف ولا تلقى للأسف الشديد ادنى اهتمام عى المستويين العربي والعالمي .
الثانية : إن معظم تلك التحليلات وخاصةً المصرية عادة ما تُقحم جماعة الاخوان المسلمين في كل حدث ارهابي او تظاهرة احتجاجية بل وحتى أي رأي حر أو موقف مستقل تراها مُزعجاً لانتقاده النظام الحالي ، وهنا ثمة خشية حقيقية بأن يتكرس ويسود هذا النمط من التحليل السطحي المبسّط للأحداث ليتحول إلى اسطوانة مُبتذلة ممجوجة بتعليق كل مشاكل مصر الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمتراكمة منذ نحو أربعة عقود ، على شمّاعة " الإخوان المسلمين " مما يُذّكرنا أيضاً بمشجب تعليق ذات المشاكل على " الشيوعية " وأصابع موسكو العفريتية الخفية إبان الحرب الباردة سواء في مصر نفسها أم في عدد من الدول العربية الشمولية وهذا ما يتنافى مع ابسط مقتضيات الموضوعية .
الثالثة : ان أكثر تلك التحليلات تنحو أيضاً إلى الربط الميكانيكي بين تنظيم " داعش " في سياساته والتنظيمات الدينية المصرية المتطرفة ذات النشأة المصرية في تربتها وبضمنها تلك التي برزت منذ عهد الرئيس الأسبق أنور السادات لكنها خرجت من عباءة جماعة الاخوان المسلمين التاريخية ( تأسست 1928 ) وهذا باعتقادي ربط يُجانب الصواب ، فالفكر الداعشي رغم تمكنه من حصد أعداد من المصريين إلى صفوفه الا أنه يبقى نبتةً شيطانية "صحراوية " نمت وترعرعت في بيئة الجزيرة العربية الغريبة على بلدان الأنهار ذات الحضارات التاريخية الكبرى ، كوادي النيل والرافدين ، وغير قابلة للحياة طويلاً في تربتهما وإن كان فكره في وقتنا الحاضر يُعد أخطر الجراثيم الارهابية الفتّاكة في مصر ولا سيما في شبه جزيرة سيناء.
وعل أي حال فإن جانباً من التحليلات المصرية أصابت كبد الحقيقة حينما وصفت المنظومة الأمنية المصرية بالتخلف وأنها تفتقد للتدابير الاحترازية وان قصورات وثغرات أمنية واضحة ولا سيما في ضوء جرائم ارهابية تجاه الكنائس اُرتكبت قبل فترة وجيزة هي تحليلات لم تُجانب الصواب . والحال ان الارهاب في مصر ليس حديث الولادة بل يضرب بجذوره التاريخية منذ تدشين الرئيس السابق السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي المنفلت بلا قيود على الدول الغربية وافراجه عن اخطر عناصر الاخوان المسلمين من السجون وتقريبه الجماعات الاسلامية
ودون تقليلنا من أهمية العلاج الأمني في مواجهة مثل هذه الاحداث الارهابية الطارئة إلا أنه في حد ذاته لا يُعد كافياً لاسيما وقد جرّبه الرئيس مبارك طوال 31 عاماً من حكمه الشمولي الفاسد بدون أن ينجح في تجفيف المستنقعات الاجتماعية التي تنمو وتتغذى منها الجراثيم الارهابية وتتكاثر مما يتطلب الشروع وبكل جدية في حزمة الإصلاحات المتمثلة في الاستجابة الفورية لمطالب ثورة يناير المؤودة وعدم الالتفاف عليها وذلك من خلال تعميق الإصلاح السياسي الدستوري الديمقراطي وتطهير الدولة من عناصر النظام السابق وبخاصة ممن هم في المراكز القيادية بالتوازي مع تجذير الإصلاحات الاقتصادية والتعليمية والثقافية والدينية وإصلاح الازهر الذي اخترقه الفكر الوهابي التكفيري المتشدد ، وحزمة الاصلاحات هذه لطالما نادت بها طويلاً كوكبة عريضة من القوى والاحزاب الوطنية وخيرة المفكرين والمثقفين والكتّاب المصريين على مدى اربعة عقود ونيّف وعُقدت من أجلها مئات الندوات والمحاضرات والحوارات التلفزيونية والحلقات النقاشية دع عنك مئات الكُتب والدراسات التي صدرت حتى تفجر ثورة يناير 2011 التي اُجهضت أحلامها وفشلت للأسف ،لاسباب موضوعية وذاتية ليس هنا موضع تناولها فشلا ذريعا في انتزاعها وقطف ثمارها .