المنبرالحر

الدساتير في دولة العراق الحديث (3) / فارس كريم فارس

ج- الدستور الدائم لعام 2005م, في ظل الاحتلال الامريكي المباشر للعراق
يعد الدستور العراقي الدائم لسنة 2005م، أول وثيقة دستورية تصاغ على يد جمعية وطنية منتخبة. لقد اكتسبت قضية صياغة دستور دائم للعراق من قبل الجمعية الوطنية، أهمية ضرورية في تلك المرحلة، إذ أن الدستور سيحدد شكل الدولة العراقية ونظام الحكم فيها وسيثبت حقوق المواطن والشعب والعلاقة بين الشعب والدولة. فضلا عن أن عملية صياغة الدستور قدمت فرصة لبلورة رؤيا وطنية موحدة لمستقبل البلاد.
إذ أن عملية كتابة الدستور والاستفتاء عليه تحتاج إلى تفاعل ودعم من مختلف مكونات الشعب العراقي لكي يصبح الدستور مجسدا للهوية الوطنية لجميع المواطنين. ومن الجدير بالذكر أن الواقع الدستوري والقانوني لفترة ما قبل الغزو الأمريكي للعراق، قد اتسم من جهة بكثرة التعديلات الدستورية لمواجهة حالات اتسم بها الحكم بالفردية والدكتاتورية، وسيطرة القيم العشائرية وانفصال غير رسمي لإقليم كردستان والعمل لإعلان الفيدرالية منذ عام/ 1992م، وتردي الأوضاع المعيشية لغالبية القطاع العام والمراتب المدنية والعسكرية المرتبطة بجهاز إدارة الدولة، نتيجة الحصار الدولي الذي امتد لفترة اكبر من حقبة زمنية اضعف المجتمع العراقي اقتصاديا واجتماعيا.
ولكن ما جاء به الدستور العراقي الجديد لعام/2005م لم يشكل الية لمعالجة الأوضاع السياسية والاجتماعية السابقة وانما جاء ليوقّع العراق في "نفق لا يعرف نهايته", صوره البعض "ببرميل العسل فيه قطرات من السم"!!!!
ظروف كتابة الدستور الدائم في 2005م
بعد حصول الاحتلال الامريكي البريطاني للعراق على سلطة اداء جميع الوظائف التنفيذية والتشريعية والقضائية, وفق قرار مجلس الامن الدولي المرقم 1483 لسنة 2003 وفي شهر مايو / ايار, ومع وصول "بول بريمر" في نفس الشهر الى بغداد حيث عين كرئيس لسلطة الائتلاف المؤقتة التي حازت على جميع الصلاحيات المذكورة في القرار الاممي السابق ذكره, اصبح "بول بريمر" الحاكم الفعلي للعراق. اعلن "بريمر" كرئيس لسلطة الائتلاف المؤقتة بتاريخ 13 يوليو/تموز2003, عن تشكيل هيئة استشارية لسلطة الائتلاف تقوم بمهام تنفيذية تخضع لسلطتها !!! يقوم (بريمر) باختيارهم وتعينهم وفق رؤية المكونات والمحاصصة التي بذر المحتل بذورها بعد سقوط نظام صدام من خلال هذه الهيئة التي سميت بـ (مجلس الحكم الانتقالي).
وبعدها اعلن مجلس الحكم الانتقالي عن تشكيل حكومة عراقية على شاكلته وفق نفس الرؤية ( محاصصة طائفية اثنية اساسا وليس وفق الكفاءة والمهنية او التكنوقراط) تتألف من (25) وزيرا تابعا للأحزاب والشخصيات المساهمة بمجلس الحكم تحديدا. وهي الأولى بعد سقوط نظام صدام حسين، واستمرت صلاحيات هذه الحكومة حتى إجراء الانتخابات في عام/2004م، ولم تضم الحكومة رئيسا !!!! بل رأسها من يتولى رئاسة مجلس الحكم الانتقال.
"وبعد تشكيل هذه الحكومة، بدأت قضية كتابة دستور للعراق تشغل الساحة العراقية وبدأت معها سلسلة من المشاكل والأزمات بين سلطة الائتلاف المؤقتة ومجلس الحكم العراقي، وبين سلطة الائتلاف والمرجعية الدينية المتمثلة بالسيد (علي السيستاني) وكذلك بين أعضاء مجلس الحكم أنفسهم. "إذ أرادت الولايات المتحدة الأمريكية اتخاذ نفس المسار الذي اتخذه البريطانيون عند وضع الدستور العراقي لعام/1925م وهذا المسار يتطلب أن يعين مؤتمر دستوري مكون من مجموعة مختارة من الممثلين العراقيين تضع مسودة دستور جديد، وبعدها يعرض على الشعب في استفتاء عام وتجري بعدها انتخابات للتوصل إلى برلمان عراقي يتمتع بالسيادة استنادا إلى الشروط الموضوعة في الدستور ويقوم بعدها الائتلاف بتسليم السيادة إلى حكومة منتخبة.
"إلا أن المرجعية الدينية في العراق المتمثلة بالسيد (علي السيستاني) عبر عن رفضه باعتماده مبدأ التعيين في كتابة الدستور العراقي الجديد، ومطالبا إجراء انتخابات حرة ونزيهة. باعتبار الانتخابات هي وحدها القادرة على إعطاء الصيغة الشرعية للقرارات والاتجاهات التي ستتخذ في المرحلة الانتقالية وبعد تسليم السلطة للعراقيين.
"في حين وجدت سلطة الائتلاف المؤقتة إن انتخاب المؤتمر الدستوري سيؤخر نقل السيادة للعراقيين، على اعتبار أن العراق يفتقر إلى القوانين والآليات الانتخابية ". "ولكن بعضاً من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي كانوا يرغبون بان يقوم الائتلاف فورا بتسليم السيادة إلى مجلس الحكم الانتقالي بدون دستور" (وكان هذا راي قوى واطراف معارضة وكذلك احزاب وشخصيات وطنية ومنها الحزب الشيوعي العراقي). "في حين اتفق أعضاء المجلس من الشيعة، مع مطالب السيد (علي السيستاني) إذ ليس باستطاعتهم المخاطرة بشكل صريح ضده, وذلك على حد تعبير (بول بريمر)".
"اما الأكراد فانهم كانوا مع فكرة تضمن مطالبهم بنظام فيدرالي، للمحافظة على الاستقلال الذاتي، مع رفض العرب (السنة) للمشاركة في العملية السياسية، على اعتبار أنها تجري تحت مظلة الاحتلال. وأمام صعوبة الوصول إلى حل مرض ٍ للجميع وتعقد الأوضاع السياسية، بسبب عنف المقاومة العراقية وفشل بريمر في إدارة العراق وأسلوب معالجته للمسألة العراقية، وضعف شرعية مجلس الحكم الانتقالي اتخذت الإدارة الأمريكية قرارا ً بتسليم الحكم إلى العراقيين".
فطرحت سلطة الائتلاف المؤقتة فكرة جديدة، وهي أن يكتب مجلس الحكم الانتقالي إلى جانب بعض العراقيين الاكفاء دستورا مؤقتا، ويستخدم ذلك (الدستور المؤقت) كأساس لانتخاب جمعية وطنية انتقالية، تقوم الجمعية بدورها بتشكيل حكومة عراقية مؤقتة وتسلم اليها السيادة في3/حزيران/2004م. وسميت هذه الخطة باتفاقية 15/ تشرين الاول/2003م". "إلا أن هذا الاتفاق لم يوافق عليه السيد (علي السيستاني) بسبب تمسكه بفكرة ضرورة إجراء الانتخابات للمؤتمر الدستوري على الاقتراع العام فالصيغة المقترحة في الاتفاقية صيغة غير ديمقراطية، لأنها تعني أن المجلس التشريعي المؤقت سيتم اختياره من قبل لجنة تضم أفرادا يعينهم مجلس الحكم وأفرادا معينين من قبل المجالس الإقليمية والمحلية، وهي مجالس أصلا معينة من قبل سلطة الاحتلال وتخضع لسلطاتها".
"وفي 16/تشرين الاول/2003م أصدر مجلس الأمن القرار رقم/1511 الخاص بالعراق، إذ جاء في الفقرة (2) و(4) منه تأكيده على ضرورة قيام مجلس الحكم الانتقالي بإنشاء حكومة ممثلة للشعب معترف بها دوليا. وقد جاء في الفقرة (6) و(10) على ضرورة وضع جدول وبرنامج زمني لصياغة دستور جديد للعراق، وإجراء انتخابات دائمة وعقد المؤتمر الدستوري عن طريق الحوار الوطني". "اما في16/تشرين الثاني/2003م، حيث اصدر مجلس الحكم الانتقالي بيانا صحفيا بشأن التحول السياسي في العراق محددا فيه بعض النقاط الأساسية، والتي تبدأ من صياغة قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية، كما أن البيان اكد في النهاية على ضرورة اقرار دستور دائم، وتحويل السلطة إلى حكومة منتخبة وفقا لأحكام الدستور الدائم".
"وصل المبعوث الخاص للأمم المتحدة (الأخضر الإبراهيمي) إلى العراق في شباط / 2004م، للمساهمة في حل مشكلة كتابة الدستور واتفق مع جميع الأطراف على إلغاء فكرة الانتخابات بدعوى عدم ملائمة الظروف لإجراء الانتخابات". "وعليه وافق الجميع على تشكيل حكومة انتقالية قصيرة الأمد، يتم اختيارها من قبل الأمم المتحدة مع تحديد دورها كحكومة انتقالية مرحلية تعمل بين انتقال السلطة من فترة30/ حزيران/2004م وحتى انتخابات كانون الثاني/2005م". اما " الخلافات بين أعضاء مجلس الحكم الانتقالي فكانت في نظرتهم تعود إلى وجود العديد من القضايا الشائكة مثل دور الإسلام وحقوق المرأة ودور الجيش العراقي وتوزيع الثروة وغيرها من القضايا. لقد كان واضحا أن الاطراف المعينة في مجلس الحكم لا تشترك برؤية جماعية تجاه الدولة العراقية، وكان حتميا بالتالي أن يشبه وضع الدستور تفاوضا على معاهدة سلام فيما بينها وليس وضع اسس لدولة مدنية مشتركة". >>>>>يتبع