المنبرالحر

مع الشيخ عامر الكفيشي وجهاً لوجه ـ القسم الثالث والأخير / د. صادق إطيمش

الموضوع الأخير الذي نناقش فيه طروحات الشيخ يتعلق بوصفه لنهج التيار المدني باعتباره نهجاً صهيونياً يعادي الإسلام ، واضاف اكثر من ذلك حينما زعم سماحته بان منتسبي التيار قد تربوا على العداء للإسلام . وهكذا وبجرة قلم يجعل جنابه جماهير واسعة من الشعب العراقي عدوة للإسلام لأن تربيتها العائلية سارت على هذا النهج. لو ان إتهامه اللامنطقي هذا واللامعقول يتحول إلى لوحة جدارية لكان افضل عنوان تستحقه " بدون تعليق " لأن مضمونها لا يساوي ثمن المداد الذي يُكتب فيه العنوان. إتق الله يا شيخ واستغفره لإتهامك آلاف العوائل العراقية بانها ربَّت بناتها وابناءها على العداء للإسلام . ألديك إحصائية او دراسة تؤكد هذا الإتهام ، او انه مجرد فرية حاقد لا يعي نتائج ما يزعم؟
ولغرض إعلام الشيخ ببعض من مفاهيم التيار المدني التي يلصقها بالصهيونية ، خاصة حول الدولة ، والتي يجهلها تماماً، كما يبدو، نترك له مقارنة ما سنطرحه حول توجه الدولة الدينية ومدى علاقة ذلك بدولة الإسلام السياسي والدولة الصهيونية.
إن من أهم مقومات الدولة المدنية الديمقراطية التي يدعو لها التيار المدني ، ليست الإنتخابات الحرة النزيهة فقط ، بل وكل ما يتعلق بحياة المواطن ، اي مواطن، ينتمي إلى هذه الدولة . وتأتي بالدرجة الأولى في الأهمية جميع مفاصل الحرية التي يجب ان يتمتع بها هذا المواطن في دولته هذه . وضمن وثائق حقوق الإنسان التي تنص عليها المعاهدات والإتفاقيات الدولية تندرج الحرية الكاملة في ممارسة النشاط السياسي وحرية الفكر وحرية العلاقة بالدين سلباً أو إيجاباً وعدم لجوء الدولة إلى فرض قناعات معينة على مواطنيها تتعارض وما تنص عليه لوائح حقوق الإنسان العالمية.
ومن الطبيعي ايضاً ان تضمن مثل هذه الدولة للمواطن حرية العمل السياسي ضمن احزاب سياسية ذات برامج واضحة المعالم والأهداف طبقاً للقوانين الديمقراطية السائدة والضامنة في نفس الوقت لمثل هذه التجمعات الجماهيرية . وما نعنيه بالأحزاب السياسية لا يبتعد عن المفهوم السائد لتنظيم مجموعة من المواطنين ضمن كيان يتبنى العمل على الساحة السياسية في الدولة بغية تحقيق ما طرحه من اهداف في برنامجه وكيانه التنظيمي . وضمن هذا المفهوم يصبح من البديهي والمفروض ان لا يتقلب هذا التنظيم السياسي بين كيان وكيان آخر ذو صبغة أخرى غير تلك التي صاغها في برنامجه السياسي ونظامه الداخلي .اي ان المنطق لا يسمح بالتستر وراء الحواجز وإخفاء الحقائق ، خاصة إذا ما تعلق الأمر بشؤون الناس سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً . إن مثل هذا التستر والإختفاء وراء الحواجز نلاحظه اليوم متمثلاً باحزاب سياسية تتلبس باللباس الديني فلم تعد سياسية بحتة ولا دينية بحتة ، وكل ما يمكن وصفها به بأنها أحزاب وتجمعات " سيادينية " .
لا يقتصر وجود مثل هذه الأحزاب والتجمعات السيادينية على دين معين او أحزاب سياسية في منطقة بالذات . فقد يتبناها السياسي المسلم كما المسيحي او اليهودي او البوذي والهندوسي . وهناك امثلة كثيرة على مثل هذه النماذج لا نريد الخوض في تفاصيلها هنا .
إلا ان ما نريد الإشارة إليه والتأكيد عليه في هذا الموضوع هو أوجه الشبه التي تنطبق على جميع هذه التجمعات والأحزاب بغض النظر عن الدين الذي تنتمي إليه او التوجه السياسي الذي تمثله . وحين إطلاق هذا التعميم على مثل هذه الظاهرة ، فلابد لنا والحالة هذه من التمييز بين درجات التسلق على الدين من قبل الساسة او تفاوت شدة إخفاء الأهداف السياسية وراء الشعارات الدينية . ولو دققننا في اسباب هذا التفاوت وفي إختلاف درجات التسلق على الدين لوجدنا عاملين اساسيين يمكنهما ان يلعبا الدور الأساسي في ذلك :
أولهما درجة الوعي السياسي في المجتمع والنابع بشكل اساسي من الوعي العلمي المرتبط بالتعليم وأسس التربية الخاصة والعامة وانعكاس هذه الأسس على تصرف الفرد داخل المجتمع .
وثانيهما حركات الإصلاح الديني وما يتمخض عنها من الوعي المعرفي بالدين بشكل يتفاوت بالقرب والبعد عن الخرافات ويتعامل مع الدين من ناحيته الروحية والشخصية .
أما إذا اردنا التطرق إلى هذه الظاهرة السيادينية من ناحية وجودها العملي المشترك حتى باختلاف الجهات السياسية والدينية التي تمارسها فيمكننا والحالة هذه ان نتطرق إلى ظاهرتين تعشعشان في محيطنا الإقليمي وتمارسان سياسة التسلق على الدين بغية الوصول إلى الهدف السياسي . وهاتان الظاهرتان هما الصهيونية والإسلام السياسي.
إن الإلتصاق بدين معين سيفقد الدولة ، مهما تبجحت بالديمقراطية ، صفتها كراعية لشؤون كافة مواطنيها ويوجهها وجهة أحادية نحو الدين الذي تتبناه وتؤكد على تبنيه عبر قوانين تُطبق بالقوة على أولئك المواطنين الذين يفكرون بإتجاه غير ذلك الإتجاه الديني الذي تبنته الدولة . وسيكون الأمر أشد رعباً وفظاعة حينما يرتبط تطبيق مثل هذه القوانين بالعنف أو بعقوبات من قِبل الدولة تُفرض على مَن لا يلتزم بنصوص هذه القوانين حرفياً .
إن المثال الذي تقدمه لنا الدولة الصهيونية والتي تدعي إلتزامها بمبادئ الديانة اليهودية، يكشف لنا ماهية الدولة الدينية . وذلك ما يمكننا ان نجده لدى أحزاب الإسلام السياسي التي تتبنى فكرة الدولة الدينية والتي تشارك الدولة الصهيونية بتوجهها هذا حتى وإن إختلف الدين، إذ ان أسس هذا التوجه واحدة ، يشكل استغلال الدين لتحقيق اهداف سياسية والوصول إلى سدة الحكم، لحمتها وسداها.
إن كل هذه التجارب وما نعيشه اليوم من واقع الدولة الصهيونية ، ما هي إلى شهادة حية على دكتاتورية الدولة الدينية ، بغض النظر عن اي دين تتبناه .
إلا ان كل ذلك لا يمنع رواد الإسلام السياسي من التهجم على النموذج الديمقراطي للدولة المدنية الحديثة واصفينه بما إمتلأت به جعبتهم من مصطلحات الكفر والإلحاد والزندقة والفساد والأفكار المستوردة وكل تلك التقيؤات التي لم يقدموا حجة علمية واحدة على صحتها ولم يشيروا إلى مثال واحد من أمثلة الدول الديمقراطية المدنية الحديثة القائمة اليوم، والتي يلجأ اليها المسلمون هرباً، ليؤكدوا فيه صحة إدعاءاتهم فيتجنبون بذلك ، حتى ولو بمثل بسيط واحد ، بعض أكاذيبهم التي ينشرونها في كل مجالسهم بين البسطاء من الناس الذين حرمتهم الأنظمة القمعية الدكتاتورية التي تسلطت عليهم ، من الوصول إلى بعض مراحل التعليم واكتساب بعض المعارف التي تؤهلهم ليفكروا ملياً بمثل هذه الأكاذيب التي لا علاقة لها البتة بالتعاليم الدينية التي تدعو إلى المحبة والإلفة والصلاح في المجتمع ، لا إلى الإقتتال والعنف والكذب على الناس.
وباختصار يمكننا إيجاز المشتركات بين ما تتبناه الحركة الصهيونية من خلال تسلقها على تعاليم الدين اليهودي لتحقيق اهدافها السياسية وما تتبناه قوى الإسلام السياسي من اجل تسلقها على تعاليم الدين الإسلامي للوصول إلى دولتها المنشودة ، بما يلي :
أولاً : إلإثنان ، اي الصهيونية والإسلام السياسي، هما حركتان سياسيتان أصلاً يستعملان الدين كوسيلة للوصول إلى اهدافهما السياسية . في الوقت الذي تتبنى فيه الدولة المدنية الديمقراطية علاقة حيادية مع كل الأديان التي يتبعها مواطنو هذه الدولة.
ثانياً : إن هذا الهدف السياسي منصَّب بالدرجة الأولى على التأسيس لدولة يسمونها دينية ، تتبنى المفهوم الديني لهذه الحركات السيادينية فقط وليس مفهوماً آخراً حتى وإن كان من نفس الإنتماء الديني . في حين تتبنى الدولة المدنية الديمقراطية سياسة فصل الدين عن الدولة، وليس عن المجتمع كما يزعم اعداء الدولة المدنية التي تنطلق من مسؤوليتها القانونية بتوفير كافة اجواء الحماية والحرية لممارسة الشعائر الدينية ضمن القوانين المدنية الديمقراطية.
ثالثاً : رفض الآخر في الدولة الدينية واعتباره مواطناً من الدرجات الدنيا بحيث يُعامَل من قبل سلطة الدولة بما يتفق ودرجة المواطنة ( الممنوحة ) له من هذه الدولة . في الوقت الذي تتبنى فيه الدولة المدنية الديمقراطية وجود المواطن بغض النظر عن دينه او قوميته او عدد تواجده. الدولة المدنية تنظر إلى المواطن الإنسان اولاً وقبل كل شيئ.
رابعاً : لا مانع لدى الدولة الدينية من إستعمال كافة أشكال العنف كوسيلة لتحقيق الهدف السياسي .وهذا ما نعيشه اليوم في الدولة الصهيونية وفي دولة البشير الإسلامية وولاية الفقيه الإيرانية ومملكة آل سعود الوهابية ، وما عشناه بالأمس في دولة الطالبان الأفغانية، وما تسعى إليه المجموعات السلفية من عنف وإرهاب حيثما وُجدت . في الوقت الذي تتمسك فيه الدولة المدنية الديمقراطية بمبادئ السلام الإجتماعي وضمان الحقوق المتساوية لكل المواطنين دون اي استثناء.
خامساً: إباحة الإستيلاء على اراضي وممتلكات الغير كما تفعل الصهيونية اليوم من خلال التوسع الدائم ببناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، وما ينشره رواد الإسلام السياسي من خلال حق الدولة الإسلامية في إمتلاك كل ما يقع تحت ايدي المسلمين في المناطق التي تقع تحت حكم دولتهم . قوانين الدولة المدنية الديمقراطية لا تعترف بمبدأ غلبة القوة، بل بمبادئ القوانين التي لا تتعارض مع حقوق الإنسان، اي انسان.
سادساً : إنطلاق التوجهين في الحركة الصهيونية والإسلام السياسي من المبدأ الميكافيللي باعتبار الغاية تبرر الواسطة. هذا المبدأ الذي ترفضه الدولة المدنية الديمقراطية رفضاً تاماً.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن فوراً هو : هل أن التشابه على الإصرار في بناء الدولة الدينية بين الحركة الصهيونية العالمية وبين أحزاب وحركات الإسلام السياسي جاء محض الصدفة ، أو أنه مجرد توارد خواطر لا غير ، أو أن له مدلولات أخرى لا يعلمها إلا ذوي الإختصاص في هاتين الحركتين الصهيونية والإسلاموية ....؟؟
إنطلاقاً من الواقع الذي تعيشه منطقتنا العربية اليوم والذي تتأثر به بعض المجتمعات الإسلامية خارج هذه المنطقة ، لابد لنا من التأكيد على الدولة المدنية الديمقراطية التي لا تؤمن بكل التوجهات اعلاه للحركتين الدينيتين الصهيونية والإسلاموية . وهنا تبرز الدولة المدنية الديمقراطية كحل امثل لمعاناة مجتمعاتنا وفسح المجال امامها للحاق بركب عالم القرن الحادي والعشرين .