المنبرالحر

حين ضيّع "الوهم" آخر فرصة لقاءٍ مؤجّل مع عزيز محمد / فخري كريم

الموت وحده يكشف معنى الوهم، ويٌطيح بتشبثاتنا الملتاعة بحثاً عن "نبتة" الخلود التي أسقطنا كلكامش في حبائل وجودها و"أوهمنا " بأنه على مقربة من مبتغاه، قبل أن يسقط هو نفسه في جُبِّ خيبته فيموت دون أن يتعرف على معنى الحياة التي كان يبحث لها عن خلودٍ عبثي. ومع ذلك ظلّ البشر يدورون مذّاك في متاهة كلكامش، ويتفننون في " تخليق" مشاتل لنبتة الخلود، ولن ينفضّ عنهم وهم فجيعتهم سوى بالموت، بوصفه الحقيقة المطلقة العصيٌة على الإنكشاف ..!
كنت أنا ضحية هذا الوهم، وأنا أراهن على أن عزيز محمد يمكن أن ينتظر يوماً آخر ريثما أتفرغ للقائه المؤجل : مجرد يوم آخر، لا غير.
لكن عزيز محمد بدّد وهمي ورحل في لحظة لم تكن أحفورات الموت قد بانت فوق جبينه أو تركت لها أثراً في محيّاه، ما يُنبئ باحتمال رحيلٍ مبكرٍ لم يستعد له هو نفسه. وهكذا هو الموت، نسغ الوجود والعدم، خبيئة المطلق وهو يتحدى العقل البشري، ويجول حيثما يشاء وأنّا أراد، وكيفما قرر..!
لم يكذب عزيز محمد على نفسه. كان يعرف ماهو عليه، ويُفصح عن ذلك كلما رأى في الإفصاح ما يشكّل مثلاً أو سياقاً يساعد في مواجهة تعثّرٍ أو تأكيدٍ لقيمٍ يريد لها أن تتسيّد في صياغة نموذج لمراودة الحياة وهي تستشرف المستقبل. وقد ظل يردّد أنه مدينٌ الى جذوره الطبقية المعدمة. يظل يحمل عبء حملٍ إنساني ثقيل تكبدته أمه وهي تكدح لتحسن تربيته. لا تتردد في القيام بكل عمل شريف مهما كان ثقيلاً ليشبّ هو عن الطوق ويصبح رجلاً قبل أوانه ودون أن يعرف من الطفولة غير تسميتها المجردة، ثم ينغمر في رحاب جسارةٍ أكبر من سنه، لكنها بمستوى وعيه المبكر الذي اكتسبه من شقاء أمه وبيئتها الفقيرة المعدمة حيث مظاهر الاستغلال والعسف بكل ما تنطوي عليه من معنىً، وما تثيره من شجنٍ، وما تستثيره من طاقة على الرفض وقدرة على مواجهة الظلم والعزم على تغييره.
صار عزيز محمد، إبن أمه، كتلة من التشبث بكل سبيلٍ يشكل أداة تغييرٍ يعيد للناس الذين تربى وسط بيئتهم، حقهم في حياة انسانية يطبعها عدلٌ وإنصاف، لم تتكشف له ابعادها بعد، اذ كانت خليطاً من أفكار وتمنياتٍ تراود كل إنسان يواجه الظلم وهو في قاع المجتمع أو في حواشيه. لكنه سرعان ما إزداد وعياً، وهو يتعرّف على أبعاد أكثر إضاءة من مجرد مظاهر مظالم فردية وتجلياتٍ للظلم مبهمة، إذ تبيّن له وهو يخوض غمار العمل ويتعرف على جوانب أخرى اكثر شمولاً للظلم الاجتماعي والعسف السياسي، أن تلك المظاهر ليست سوى نتاج لنظام اجتماعي أقتصادي يكرّس، بحكم طابعه الطبقي، كل مظهر للاستغلال والتعسف والتمييز، فيستغرقه التفكير ويسأل كلاً من هم أقرب اليه، ويقرأ قدر مستطاعه ولم يكن قد تمكن من اجتياز الصفوف الابتدائية، ولم يتردد في البحث عن إجابات مِن الأكبر سناً حول الأشكالات التي كان يواجهها في فكّ ما يلتبس عليه من أفكار ومفاهيم وتفسيرات تبدو له أحياناً أعقد من الظاهرة نفسها. وإهتدى أخيراً الى فهمه الخاص لكل ما يحيط به وببيئته من أسباب الجور. وببساطة يافعٍ إكتسب أعمق معرفة بمدلولات ما هو فيه، من الحياة نفسها دون حاجة لتعقيدات المفاهيم والتنظير، فاصبح شيوعياً ودخل دروب الشيوعية، وتوحَد منذ اللحظات الاولى بلا تحفظ في كيان الحزب. أصبح نزيل بيوتاته السرية، في مطبعة الحزب ومحطات بريده وحواضن كوادره القيادية. تعلم فيها الأمانة والإلتزام والولاء المطلق. كانت تلك سمات الشيوعي في تلك المرحلة التاريخية المعمّدة بأبلغ التضحيات ونكران الذات، والحُبلى بالوعود والآمال والتحديات والمرتجى من قلب الموازين وإعادة خلق القيم وإشاعة مبادئ العدالة الاجتماعية وحرية الضمير والمعتقد ونبذ كل ما يتعارض مع عالم ينفي الاستغلال والجور والتمييز. وكانت تلك مرحلة تسلّل الوعي منها الى كل ميادين المجتمع والحياة السياسية.. الوعي بكل جديد يستنهض قوى التغيير ويكرّس في الضمير العام المبادئ النافية للظلم والاستغلال والعسف.
إنغمر عزيز محمد في النشاط الحزبي منذ لحظة إنتمائه، دون أن يلتفت لشأنٍ غير ما يُمليه عليه التزامه وواجبه الحزبي، لينتهي به المطاف في اواخر أربعينيات القرن الماضي الى السجن الملكي حيث أمضى فيه عقداً، وحررته من أسواره ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨.
كان السجن، دون أن يكون دخوله خياره الشخصي كما هو حال مجايليه ممن قادهم النضال وتحدياته الى المعتقلات والسجون، مدرسة التعلم والتكوين المعرفي والسياسي. وفيه إنكبّ عزيز على القراءة، وصار أسير الشغف بتعلم العربية وفهم مدلولاتها اللغوية. ولم تقتصر قراءاته على كتب السياسة، بل كانت الرواية والشعر وكتب السيرة تحتل الاولوية في إختياراته، ونهل من كنوزها باللغتين العربية والكردية. وظلّ حتى لحظاته الاخيرة يتعذر أن يمر اليوم عليه دون أن يكون الكتاب أنيسه، إذ نقل لرفيقه حيدر الذي لازمه دون مفارقة، قبل ساعة من رحيله، أنه كان يتمنى ان يستطيع التحرك لينتقل الى الكرسي ويقرأ. !
حال إنعتاقه من السجن بعد ثورة تموز، إنخرط في العمل القيادي الحزبي، وتنقّل في المهام والمواقع القيادية، وساهم في إعادة بناء التنظيمات الحزبية التي تعرضت للإنقطاع والتصفيات من قبل طغمة البعث وحرسه القومي الإجرامية بعد انقلابه الدموي في ٨ شباط ١٩٦٣. وأُنتخب في اجواء احتدام الصراع وغياب الرؤية وتُفكك التنظيمات الحزبية سكرتيراً للجنة المركزية للحزب، دون أن يصوّت هو لنفسه، مردّداً حتى بعد إنتخابه بسنوات وكلما وجد ذلك ضرورياً، أنه لم يكن وليس الأكفأ بين رفاق القيادة. ويعرف من عمل معه في العمل القيادي، أنه كان يعير اهتماماً إستثنائياً للكفاءات في اللجنة المركزية والمكتب السياسي ويصطفيهم الى جانبه في بلورة المواقف والسياسات وادارة العمل القيادي. ولم يكن ليتردّد في أن يكون بين هؤلاء من هم على خلافٍ فكري أو سياسي معه ، أو تقاطعٍ مع الاتجاه السائد في الحزب وقيادته.
كانت مرونته في معالجة الخلافات بين العناصر القيادية والإتجاهات المتصارعة داخل الحزب موضع عدم رضاً وقبول، وخصوصاً حين كان الخلاف يتخذ منحىً متعارضاً مع الرأي العام في الحزب، وليس في قيادته فحسب. وقد لا يعرف الغالبية من الشيوعيين أن تلك المرونة والتسامح وغضّ الطرف أحياناً عن المخالفين أو المختلفين، لم تكن بمعزلٍ عن التجربة الحزبية المريرة التي عاشها وكوكبة من القياديين في السجن الذين كتبوا للقيادة وجهة نظرهم حول السياسة السائدة، دون أن يعبّروا أو يبشروا بها علناً، فما كان من المسؤول الاول الا أن يشطب عليهم بالجملة دون مناقشة أو إستيضاح، ودفعهم الى "العزل" في السجن .!
والغريب أن جميع من تم فصلهم أصبحوا قادة في الحزب، وأستشهد البعض منهم، وصار من اتخذ قرار طردهم ومعاناتهم خارج الحزب والبعض من حوارييه صاروا بحكم المرتدين والخونة. .
ظل عزيز محمد أسير هاجس القهر اللامبدأي حتى وهو في فراش المرض وسكرات الموت، إذ لم يرفض مكالمة من لم يتركوا وسيلة للنيل من الحزب ومنه شخصياً، ولم يتعفف بعضهم من وضع نفسه تحت تصرف السفارات العراقية، وأختار آخرون الإفتراء عليه.
وقد تكّون عزيز محمد، بطبيعته المحافظة، في بيئة إنكساراتٍ وتراجعاتٍ وأخطاء وصراعات عصفت بالحزب، وفي أجواء سادتها أحيانا غير قليلة معايير لا مبدئية، وإنحيازات ذاتية منفعلة، وتنافس غاب عنه في لحظات فارقة التوقف عند ما يفيد أو يلحق أفدح الاضرار بوجود الحزب والحفاظ على سلامته، بل وبالمصالح الوطنية العليا، وهو ما يلقي الأضواء على مراحل مختلفة من تصدره العمل القيادي.
لكن عزيز محمد، رغم كل ما يُقال أو يُنسب له من أخطاء ومواقف مخلة، لم يكن " فردياً " أو متسلطاً الا بالقدر الذي يتيح قدراً من ذلك، صمت من كان يعمل معه ، أو تجنب اتخاذ مواقف واضحة من قبلهم في المنعطفات أو الصراع المنفلت. وهو بطبيعته كان يركن الى من يرى فيهم الكفاءة والرأي والخبرة لإنضاج التوجه والموقف. وتتضح هذه الطبيعة التي قد يرى فيها البعض نزوعاً سلبياً وضعفاً، في اجتماعات اللجنة المركزية، حيث يتردد في بلورة تلخيصٍ لما دار فيه، تاركاً تحديد ذلك لوجهة الاراء المطروحة، وما تنتهي اليه الأكثرية من مواقف واراء وتوجهات.
بقي عزيز حتى اللحظة الاخيرة مشدوداً الى ما اعتبره دون تردد قضية حياته، ومحور قضيته واداة انجاز ما كان يطمح ليتحقق في الحياة ظل الحزب. وإذ تخلى عن المسؤولية القيادية، لا تهرباً وإنما رغبة في ضخ دماء جديدة قد تستطيع التفاعل مع التطورات العاصفة التي غيرت العالم، وتجديد الحزب والارتقاء بوسائله وادواته واساليبه وبناه للتناغم مع ما يجعل منه قوةً محركة خلاقةً لبناء عراقٍ ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية والسلم الاجتماعي.
رحل عزيز محمد قبل ان اخوض معه آخر جولة من حوارٍ في قضايا ومواقف، أردت أن يقول كلمته الاخيرة فيها لعلها تعيد التظر فيما استقر في ذاكرتي من تقييمً حول احداثٍ عاصفة ومواقف مربكة.
اكتب عن عزيز محمد، وانا اقرّ بتميّزه عن كثيرين من مجايلينا. كان صديقاً لا يخدش صداقته الخلاف والاختلاف في الفكر والتقييم والمواقف. مرت سنوات كنّا نبدو فيها كما لو اننا على رأي واحد، رغم اننا لم نكن كذلك . وعصفت بنا في سنوات أخرى تصدعاتٍ في المواقف، لكننا ظللنا على ولاءٍ لا تخمد جذوته لصداقة تعمدت بالوفاء للامل والقضية التي ظلت عميقة الجذور. ربما يعود ذلك الى اننا كنّا من منبتٍ واحد وعلى مرتجىً أن لا نرى أماً تكدح كسيرة العين، واباً تقوّس ظهره وهو يلتقط رزق اسرته.
لكنه مرتجىً ظل وربما سيظل مؤجلاً الى حين .
فالأمهات الكسيرات يملأن دنيانا بالاحزان والشجن، والأباء المنكسرة ظهورهم، والملبدة وجوههم لا يلتقطون رزق اسرهم الا بين اشلاء الضحايا خاصتهم، ومنهم من يلتقطها بعيداً عن الانظار في فضلات اوباش النظام ..
الأن فقط، ابكيك صديقي عزيز، وأغفر لك خطيئة الرحيل دون وداع ..
الآن ابكي قصورنا وخيبتنا أذ لم نبن جنة الفقراء في الارض ...
ليتك انتظرت يوماً واحداً لا غير. أكان ذلك كثيراً عليك، ام انه الوهم الذي يظل يرافقنا حتى اللحظة الابدية ..؟!