المنبرالحر

إرهاب داعش يجعل الموصل بلا حدباء / مصطفى محمد غريب

في ذاكراتي حيز من مساحة للموصل الحدباء وهي مركز محافظة نينوى حيث ظلت معلقة ذهني وأنا أكتب عنها إلى هذه اللحظة، كنت عاشقاً لمنارة الحدباء لكثر حديث جدتي وأخوالي عنها أثناء إقامتي المتعددة أو وزياراتي التي لا تحصى لأنهم كانوا يسكنون في حي المكاوي الذي يعتبر من الأحياء القديمة، فكثيراً ما كانت أهوى زيارة الجامع النوري ومنارة الحدباء فاجلس تحتها وبين الفينة والفينة كنت أتطلع إلى انحناء المنارة واستغرب لانحنائها قرون طويلة دون أن تسقط، وسألت حينها جدتي وأقرباء طاعني في السن عن سبب انحناء المنارة فقيل لي أنها عبارة عن " تَعبد وخشوع لتُذكر الناس بالصلاة " في حينها انطلت عليّ هذه الحكاية، وحتى عندما كانوا يطلقون على الموصل لَقب موصل الحدباء فهم يمجدون تاريخها الحضاري ومكانتها المعروفة، لا يمكن أن تذكُر الموصل بدون الحدباء وكأنهما توأمان ولدوا في دقيقة واحدة، مع العلم أن مدينة نينوى هكذا كان اسمها ذو تاريخ قديم حسب المصادر التاريخية يعود تأسيسها إلى الألف الخامس قبل الميلاد، سُكنت كقرية زراعية للإنسان القديم ثم سكنوها الآشوريون فأصبحت عاصمة لمملكتهم من القرن الحادي عشر وحتى 611 قبل الميلاد، ويحكي التاريخ أنها سقطت على يد الكلدانيين، وبقت المدينة حتى ظهور المسيح وانتشار المسيحية بين الآشوريين، ولقبت حينها ببلاد الرهبان لكثرة المدارس اللاهوتية، لم تسلم نينوى من الصراعات والحروب التي حدثت فسقطت تحت نير الحكم الساساني الذي استمر زمناً طويلاً حيث أفقرها ونزع هويتها الآشورية، بعد هذه الحقب فتحها المسلمون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وتعاقبت عليها الظروف ولقبت بأم الربيعين أيضاً لتشابه خريفها مع ربيعها، طوال سنين وجودها لم تمسح حضارتها الذي أظهرتها الآثار كدليل على مدى عمق التاريخ الحضاري الذي صنعه الإنسان وبخاصة طبقات العبيد والفقراء الذين أُستغلوا من قبل الأباطرة وسُجلت كل الإنجازات والفتوحات بأسمائهم بسبب انحياز كُتاب التاريخ وارتباطهم بأسيادهم الحكام وتناسوا عشرات الالاف من البشر صانعي التاريخ الحقيقيين.
لقد قام الإرهاب القاعدة أو داعش آو أي مسميات بأكبر جريمة في عرف الإنسانية عندما توجهوا لمحو الآثار الحضارية في كل مكان ولدينا أمثلة وأدلة لا تحصى غير العراق، إلا أن الأكبر منها كان ما قام به الإرهاب في العراق الذي حظي باستنكار داخلي من جميع مكونات الشعب إلى استنكار عالمي واسع بما فيها هيئات ومنظمات دولية ومنظمات المجتمع المدني ودور الثقافة والتراث، استنكار واسع ضد التدمير الشامل للآثار الشاهدة على التراث والتاريخ البشري في العراق، واعتبر جريمة بحق التاريخ البشري تعاقب عليها جميع القوانين الوضعية، وقد استنكرت يوم الخميس المصادف 22 /6 / 2017 منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة " يونسكو" تدمير مسجد النوري التاريخي ومنارته الملقبة بمنارة الحدباء حيث قامت أيرينا بوكوفان المديرة العامة لليونسكو بإصدار بيان ذكرت فيه أنّ "المسجد والمنارة يعتبران إحدى أهم الأيقونات في الموصل" والشيء بالشيء يذكر فقد حاول داعش الإرهاب قبل شهور عديدة تفجير الجامع ومنارته لكن محاولته باءت بالفشل بعدما ذكرت الأنباء أن السكان قاموا بتشكيل سلسلة حول المسجد لحمايته من التفجير والتدمير وقد ذكرت ذلك أيضاً المديرة العامة لليونسكو أيرينا بوكوفان في بيانها الأخير..
هكذا ثبت للعالم ولكل من خدع بالتطرف بحجة الدين مدى استهتار الإرهاب ليس بأرواح المواطنين فحسب بل حتى في تراثهم وتاريخهم، فقبل تاريخ تدمير المسجد ومنارته الحدباء قام هذا التنظيم الإرهابي بتجريف المدينة الأثرية الآشورية نمرود هذا الإرث الحضاري الذي يعود إلى للقرن 13 قبل الميلاد والذي كانت مرشحة للأدراج على لائحة اليونسكو للتراث العالمي ولم يسلم من متحف الموصل الغني بالموجودات والتماثيل والألواح الأثرية ولحقت به مكتبة الموصل ومرقد النبي يونس الذي سوي بالأرض ومن جرائم هذا التنظيم الإرهابي لم تسلم حتى النصب التذكارية والتماثيل المنحوتة من حقب بعيدة تمثل مختلف العصور التاريخية والتراثية مثل تمثال أبو تمام وجدران قلعة تلعفر، وامتدت يد الجريمة إلى مواقع دينية أثرية وللجوامع والكنائس وأما كن العبادة للأديان الأخرى مثل الكنيسة الخضراء في تكريت والتي يعود تاريخها إلى ما يقارب 1300 عام، إضافة إلى مواقع أثرية تخص تاريخ البلاد، كما لم تسلم الآثار في سورياً من التدمير والجرف والتهديم،، هذه الجرائم وغيرها لم تكن من نصيب التراث القديم ما قبل الميلاد أو الحقب التاريخية التي تلته فحسب بل طالت حتى التراث الإسلامي بدون أي تفريق بين مذهب ومذهب أو طائفة وطائفة أو قومية واحدة وهو دليل على مدى الكراهية والحقد لجميع الحضارات والعداء المستفحل في عمق الفكر الإرهابي والطائفي تجاه كل من يدعو للسلام والتسامح والإخاء بين المكونات العراقية، الدمار والخراب لم يكتف بالآثار والتراث بل طال البنى التحية كافة الذي عمل داعش الإرهاب جهد الامكان إلى إرجاع المناطق التي سيطر عليها بما فيها مدينة الموصل إلى القرون الظلامية منتزعاً منها كلما يربطها بالتطور العلمي والتقدم التكنولوجي، أما الإنسان الذي هو اثمن ما في الوجود من قيمة ومكانة فقد ناله من القتل بمستويات وأشكال فريدة في الوحشية المناهضة لأبسط الوصايا الدينية والمخالفة لكل القوانين الإنسانية والوضعية ولم يسلم من الإرهاب أي دين أو مذهب أو طائفة ولا قومية أو عرق، الجميع تحت طائلة الطاحونة التي تطحن الإنسان ومكانته الكبيرة في البناء والتقدم والعلم، هذا الدمار الواسع النطاق وهذه الجريمة النكراء وهذا الهدم للبنى التحتية الذي كلف البلاد المليارات من الدولارات والخسائر البشرية التي فاقت التصورات إلى جانب كل ذلك ترك البلاد أكثر من 4 ملايين عراقي أبان السلطة الدكتاتورية ، كما سجلت الإحصائيات الأخيرة هروب ولجوء حوالي أكثر من 5 ملايين أخرى منذ السقوط والاحتلال، أما النزوح عن مناطقهم إلى مناطق داخلية بسبب السياسة والنهج الطائفي الميليشياوي والإرهاب والحرب في المناطق الغربية فحدث ولا حرج عن الأعداد الرهيبة من العائلات التي تركت ديارها ومحلاتها وأماكن رزقها وأعمالها وقطنت مضطرة مخيمات النازحين والهاربين خوفا على حياتهم وعائلاتهم، لقد قدر رئيس الوزراء حيدر العبادي حاجة العراق لإعادة أعمار المدن والمحافظات التي هيمن داعش الإرهاب عليها فقط بحوالي أكثر من 100 مليار دولار حيث نقلت ذلك عنه قناة السومرية التلفزيونية، طالباً من الدول التعاون لمحاربة الإرهاب والقضاء عليه وأقر يوم الأربعاء المصادف 21/6 /2017 إن" التنظيم اعترف بهزيمته بتفجيره مسجد النوري التاريخي في #الموصل" .
إن برنامج الإرهاب هو وفق منهجية بربرية متطرفة لازم الجرائم التي ارتكبت ضد آثار العراق دليل على مدى الكراهية والاستهتار لمحو تاريخ العراق القديم الذي له الواقعية الملموسة على قيمة البناء والتقدم حسب ظروفه التاريخية حينذاك، وهذه الآثار تدل تاريخياً أنها كانت نتيجة للعمل الجماعي الإنساني وليس محصورة بأشخاص إلا من حيث الرسميات والمناصب المسؤولة كما هو السائد في كل العالم حيث تطمس القيمة الفعلية للجهد البشري الجماعي وتنسب بشكل مشوه لأباطرة وملوك وقياصرة وحكام وأفراد أسطوريين كانوا يجلسون على كراسي السلطة بينما من كان يقوم بهذه الأعمال عشرات الالاف من الناس من مختلف مجالاتهم ومهنهم ومواقعهم العملية، من هذا المضمار نعتبر أن التاريخ وكل ما صنع في السابق من حضارات هو من صنع الجماهير وليس الأباطرة والأسياد، حتى الآن نرى كم هي عظمة الملايين من الكادحين والطبقات المسحوقة في العمل والتضحية بما يبذل من جهدٍ وعرق بينما تمجد السيمفونيات والأناشيد والأغاني رؤوس المهيمنين على الحكم من دكتاتورين وظالمين جاءوا عن طريق الاضطهاد والتعسف والانقلابات العسكرية والتزوير والتلاعب ، إننا نؤمن إيماناً مطلقاً أن الإرهاب بشقيه السلفي والأصولي لا بد أن يفشل في البقاء ولن تكون نهايته غير المأسوف عليها إلا على يد القوى الخيرة ولن يبقى للأبد وحتما سيتم القضاء عليه بإرادة ملايين الناس الخيرين الذي يرون في الحريات المدنية والنهج الديمقراطي السليم سفينة للعبور نحو شاطئ الأمان والسلام والبناء والتقدم والتعاون بين شعوب المعمورة لبناء عالم بلا حروب وعنف واستغلال واضطهاد من أي نوع كان ، ديني أو طائفي أو قومي أو عرقي فالناس خلقوا أحراراً وليس عبيد للأسياد الطفيليين.
إن داعش الإرهاب الذي دمر أكثرية آثار البلاد وآخرها المسجد النوري والمنارة الحدباء ارتكب اكبر جريمة بحق الإنسانية جمعاء وليس الشعب العراقي فحسب، ومن جانب آخر إن هذا التنظيم أصبح ضليعاً في تهريب الآثار الصغيرة ، فقد نشر موقع شبكة (CNN ) أن"الخبراء وصلوا إلى استنتاج بأن بعض التماثيل والقطع الأثرية التي دمرتها معاول المسلحين بطريقة استعراضية كانت في حقيقة الأمر نسخا مزيفةً أعدت من الجبس، فيما قام التنظيم بتهريب القطع الأصلية من العراق إلى الخارج" وأوضحت الشبكة حسب المسؤولين أن "مسلحي داعش لم يدمروا القطع الأثرية الأصغر حجما" مشيرين بالدليل أنه " تم بيع التحف الثمينة النادرة التي كانت محفوظة في مستودعات المتاحف".. .هذه جريمة أخرى تدل على لصوصية هؤلاء المتمسكين بالدين بشكل علني كاذب لكن ما هم إلا لصوص يستغلون الدين الإسلامي بأي طريقة كانت لخداع المواطنين.
لهذا ستبقى آثار الحضارة والتاريخ العراقي نبراس للتجلي على بناء المستقبل وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة ومنح الحقوق المشروعة في العراق وتطبيق القوانين الوضعية المحلية والدولية لمعاقبة رموز التنظيمات الإرهابية وليكن التاريخ شاهد على مدى خسة وعار الجريمة بحق الإنسان والآثار في البلاد.