المنبرالحر

الثورة المنهجية في السياسة وتخليص المجتمع الكوردستاني من الإرتهان للماضي/ د. سامان سوراني

بالرغم من أن بعض الفلاسفة أمثال الإنكليزي الفرد نورث وايتهد (١٨٦١-١٩٤٧) يقارنون نتائج التفكير الفلسفي بأعمال بعض رجالات السياسة ويضعون أفلاطون وأرسطو وديكارت وهيجل في مصاف رجال من أمثال الاسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم مع إعترافهم في الوقت نفسه بأن كل نجاح يحرزه الفيلسوف لايمكن مطلقاً أن يبدو في الظاهر جليل الشأن واسع المدی ، كالنجاح الذي يحرزه رجل الدولة أو القائد الحربي ، لكن هل يمكن أن ننسی الأثر الضخم الذي خلفه المذهب السياسي للفلسفة الهجلية علی حركات سياسية متباينة أمثال الفاشية والاشتراكية الوطنية والشيوعية بل وحتی علی القوی التاريخية التي تصنع المستقبل وتوجه البشرية.
بكلام آخر إن التفكير الفلسفي هو قوة جبارة وحاسمة تقترن بكل تغير يطرأ علی الحضارة وتكمن وراء شتی الانقلابات الاجتماعية الهائلة والتغييرات الحاسمة. وما يتمخض عنه الغد من تطورات تمهد دوماً عن طريق النظريات الفلسفية والمذاهب السياسية.
التفكير الفلسفي يعمل علی تفكيك الأصول والماهيات ، لا للوصول الی الفراغ ، بل لفتح الإمكان الذي يتيح فهم المآزق وتسليط الضوء علی الأزمات والعوائق. ومهمة الفيلسوف هي شق توجه وجودي يتيح بلورة مفهوم جديد للإنسان ينفتح علی معاني الشراكة والوساطة أو المداولة والمبادلة.
سياستنا اليوم بحاجة الى ثورة منهجية في نظرتنا وممارستنا لها. ومهمة السياسي الحداثي والليبرالي المعاصر هو تخليص مجتمعه من الإرتهان للماضي الی الرهان علی المستقبل وإخراجه من الماضي البائس المليء بالشك من الآخر ومن نوایاه الإيجابية ونقله الی مستوی العصر. فالشك والبٶس المجتمعي متأت من العيش في بٶس الماضي وفي بٶس المجتمع التقليدي، أما تغيير المجتمع بشكل جذري وواقعي هو ما يمكن إخراج المجتمع الكوردستاني من التخلف الی التقدم ومن عالم الأحلام والخيالات الی عالم الواقع والرهانات.
إن حماية مكتسبات شعب كوردستان من الإنتكاسة والإنحراف عن الهدف الأسمی وهو بناء دولة كوردستان عصرية نموذجية في المنطقة والسير بالإقليم الی بر الأمان لا يتأسس دون بناء ديمقراطية حقيقية تقوم على تحديد مسؤولية كل من المواطنين والسلطات لإرساء قواعدها ، في تجربة يمكن أن تعمم على العراق والبلدان المجاورة. نحن لا نستطيع أن نتحدث عن أي مشروع سياسي يسعى لبناء مجتمع أكثر ديموقراطية دون الخوض في فكرة تعزيز وتفعيل دور المواطنة التي تعتبر الأرضية الخصبة لقيام مجتمع تقدمي. فالمواطنة التي تعتبر المبدأ الأساسي يجب أن لا يغيب عن المشاريع السياسية ولو للحظات وأن مشاركة الشعب في الممارسة السياسية ورسم المستقبل السياسي للبلاد حاجة ضرورية وملحة أكثر من أي وقت مضی. فلا وجود للمواطنة دون ديمقراطية تمنح للشعب حق المشاركة السياسية واختيار ممثليه في الحكومة والبرلمان والتعبير عن رأيه بشكل حر، ليمارس مسؤوليته تجاه وطن عبر المشاركة في رسم معالم الديموقراطية. والقادة السياسيين هم اليوم أفراد من المجتمع يتم إختيارهم في انتخابات عامة شبه مفتوحة. وبقاءهم او ذهابهم رهينان الی حد ما بارادة الشعب الكوردستاني. ويتوجب علی الأحزاب ان تمارس السياسة ممارسة ايجابية ولا يجوز استنكار فسادها باتخاذ موقف سلبي منها وبالدعوة للابتعاد عنها لان هذه الدعوة الى السلبية هي التي تحول الديمقراطية الى استبدادية. فتفادي المشاركة العامة في السياسة يتيح للأقلية المتفرغة لها ان تتصرف بها كما تشاء.
صحيح بأننا نعيش اليوم في عصر إضطراب فكري من صفاته عدم الإهتمام بالعمل علی مناقشة آلأفكار أو تعقل المذاهب أو مواجهة الفلسفات بعضها البعض الآخر كما في الماضي ، لكن الذي يجدر الإشارة إليه هنا هو عدم إهتمام الأحزاب السياسية بمناقشة آراء الخصوم بل القيام قبل كل شيء و بالإستناد الی تحليل المصالح وحدە والإستعانة بالتفسير النفعي الضيق بالطعن فيها والإنتقاص من قيمتها وهذا ما يجرؔ العملية السياسية الی هاوية المحال أو الی دائرة اللامعقول. إن الخروج من النفق الأزلي الذي استراح اليه الأحزاب السياسية ضروري لتواءم اللغة السياسية مع مفاهيم العصر بعد خوض صراع بناء مع الذوات واللغة بهدف عدم التشرنق في كهوف الأزمنة الغابرة أو الوقوع في هوة الثيوقراطية السحيقة أو الإتيان بالماضي الشمولي.
إن النقد بناء للإمكان و أن كسر التعارضات الخانقة وإتقان صناعة التنمية وهندسة العلاقات الإجتماعية بفتح خطوط التعايش والتواصل يجب أن تكون من أولويات عمل الأحزاب السياسية لخلق قيم للتداول والتبادل لكي يتيح لنا إخراج اختلافاتنا وإدارة واقعنا علی سبيل المساهمة في إنتاج المعرفة والثروة والقيمة. ومن يعتقد بأن هناك فرداً متنوراً أو نخبة متقدمة تصنع للشعب الكوردستاني تقدمه و حريته يعيش في خرافة يسهم في تدمير مشروعات التقدم والتحرير والإستقلال. وختاماً يقال: "تاريخ التفكير الفلسفي هو مرآة صادقة لتطور المجتمع البشري وترقي الروح الإنسانية في صيرورتها المستمرة. والرهان هو اختراع سياسة معرفية تتغير معها خارطة الواقع بقدر ما تتغير خارطة الفكر حتی لا نظل نفكر بالمقلوب ونعود الی الوراء."