المنبرالحر

حول المستقبل والدراسات المستقبلية (1) / فارس كريم فارس

المستقبل هو "الآتي من الزمان" , وقال الجرجاني: " المستقبل: هو ما يترقب وجوده بعد زمانك الذي أنت فيه", وهو اسم مفعول من استقبلتُ الشيء: أي واجهته فهو مستقبل0 فكل ما سيقابله الإنسان بعد الحال أو اللحظة التي هو فيها الآن يعتبر من المستقبل, سواء كان قريباً أم بعيداً خيراً أم شراً.
ويمثل المستقبل الحصيلة التراكمية لما يتتابع من احداث او عمليات التغيير النابعة من المجتمع او الوافدة اليه، وامام كل مجتمع في لحظة معينة من تاريخه احتمالات متعددة للمستقبل يتعين الكشف عنها ومحاولة رسم معالمها الاساسية ودراسة امكانيات المجتمع المعني والتعرف على اساليب استخدام ذلك المجتمع لتلك الامكانيات ودرجة الوعي بالآثار البعيدة للاستخدامات اللاحقة ثم مدى الحرية التي يتمتع المجتمع بها لتغير انماط استخدامها اذا رغب بذلك.
فمن الضروري فهم الماضي والحاضر لكي ننتج حلولا مناسبة لمستجدات المستقبل، فالحاضر انبثق من الماضي، وهو بالضرورة يمثل الواقع الراهن. فاستشراف ابعاد المستقبل يعتمد على أساليب الاستشراف العلمي القائم على فهم الماضي والعوامل التي انتجته، وكم ونوع المعرفة العلمية المتوافرة عن الواقع. وبقدر ما ان هناك جزءاً من المسارات المستقبلية حر ومفتوح للاحتمالات والمفاجآت كافة، فهناك جانب من المستقبل مرهون سلفاً بالموروثات والقيود الاستراتيجية التي تثقل كاهل الحركة والفعل ألمستقبلي. فعملية التكيف مع المستقبل رهان دائم لكسر القيود التي تشل حركة المستقبل دون تجاوز الواقع الذي يحدد نقاط البدء في الاتجاه نحو المستقبل.
فالصور المختلفة للمستقبل تتوقف الى حد بعيد على القرارات التي تتخذ في الحاضر، فمحاولة استقراء آثارها التراكمية في الاجل الطويل ستساعد على ترشيد القرارات الحالية، ابتغاء الاقتراب من افضل البدائل التي يمكن ان تتاح في المستقبل. اذن العلاقة بين الحاضر والمستقبل علاقة جدلية تركيبية تأليفية، ويقتضي ذلك بدوره تحديد المتغيرات الحاكمة لحركة المستقبل، فالكشف عن تلك القوى المحركة الظاهرة والباطنة كفيل باستكشاف المسارات المستقبلية الممكنة وأعداد الحسابات المستقبلية اللازمة بما تنطوي عليه من هوامش خطأ. وتاريخياً، كان للسلطة السياسية موقفها من الآتي بعد الحال، الا ان مفهومها كان متبدلاً من حينٍ لآخر ومسايراً للنمط الثقافي والاجتماعي المتغير بفعل قانون التطور. ويمكن تحديد مراحل ثلاث لعلاقة السلطة السياسية بالمستقبل :-
1. المرحلة الاولى : وهي ذات صبغة دينية رافقت الوجود الانساني في مختلف مراحل تطوره، اذ استخدمت السلطة السياسية الكهان والعرافين لمعرفة الزمن الاتي من الحال. واتسمت هذه المعرفة المستقبلية في تلك المدة بمحاولة الكشف مثلاً عن نتائج معركة قادمة قبل وقوعها، او معرفة القوى والأشخاص الذين يتآمرون على الحاكم او التحذير من الإقدام على عمل قد يؤدي الى كوارث تسببها القوى ألغيبية, فكان رجال الدين الاكثر صلاحية لأداء مهمة قراءة المستقبل وكان البعد السيكولوجي المتمثل بالقلق والخوف من الغد يمثل الحافز الاشد اثارة لقراءة ألمستقبل, فخلت هذه المرحلة من محاولة التعامل مع المستقبل تعاملاً منطقياً منذ العصور القديمة البدائية حتى نهايات القرون الوسطى وبداية العصر الحديث والثورة الصناعية.
2. المرحلة الثانية: وهي مرحلة التخطيط للقادم والتحول في الكيفية التي بدأ الانسان ينظر فيها الى الظواهر عبر استخدامه الوسائل العلمية من تجريبية وتأملية مع بدايات القرن العشرين. ومع التطور الذي افرزته الثورة الصناعية وتراجع انماط التفكير الغيبي، بدأ اسلوب النظر في المستقبل يعرف بعض التغيير، فتخلت النظريات السياسية عن التفسيرات الدينية للواقع السياسي وساد مفهوم المصلحة القومية والامن والدولة القومية في الفكر السياسي والعلاقات الدولية. فزاد التعقيد والتخصص في المجتمع مما جعل صانعي القرار بحاجة الى المتخصصين، وزادت اهمية التخطيط لمعرفة المستقبل ومعالجة آثاره بوصفه استعداداً للقادم وتوفير ما يعتقد انه كاف للتعامل مع مستجداته لتتضح صورة المستقبل من خلال معطيات الواقع من جهة، ومن سيناريوهات تطور هذا الواقع من جهة اخرى، ليكون التخطيط بمثابة تدخل واعٍ ومتعمد لجعل المستقبل يسير في خيارات محددة بذاتها.
3. المرحلة الثالثة: وهي المرحلة الثورية التي تهتم بصورة المجتمع الانساني في الزمن القادم، وتم تحديد ملامحها لا على اساس معطيات موجودة حالياً نقوم بتصور تطورها في مسارات وصفية، انما على اساس حدوث طفرات تؤدي الى تغيير ملامح العلاقات الانسانية لخلق مجتمعات المستقبل التي تسعى الى وضع الحلول اللازمة للمشاكل والازمات القادمة، واتخاذ التدابير المناسبة في مختلف مجالات المجتمع.
ان نزوع الانسان فرداً ومجتمعاً ودولةً الى المستقبل دفعه وما زال الى مستويين من الفعل الاول مستوى فعل محاولة التنبؤ بأحداثه بدافع الخوف من المصير المجهول والفضول لمعرفته، والأخر مستوى فعل رسم الغايات التي يرجو تحقيقها والتي تختلف في نتائجها فشلاً ونجاحاً، باختلاف امكانياته الظرفية على المستويات كلها اعاقة او تسهيلاً. فتطورت رؤية الانسان لماهية التاريخ من الرؤية الاسطورية الى العقلانية التي شهدت بدورها التطور من الرؤى المثالية اللاهوتية والميتافيزيقية الى الرؤى الجدلية– المادية.
اما ما تم على مستوى تطور الرؤية والنزعة المستقبلية، فقد تطور فعلها المرتبط بالأهداف المستقبلية من افعال سلبية استسلاميه للقدرية الى ايجابية وعقلانية الفكر والمنهج وحرية القرار وإرادة الفعل عند الانسان على صعيد الفرد، او من استراتيجية التخطيط القريب الاجل الى استراتيجية التخطيط ذي الاجل المتوسط والبعيد على صعيد الدولة والمجتمع، ومن المضمون العسكري المباشر للاستراتيجية الى مضمونها السياسي المتعدد غير المباشر، اما فعلها المتعلق بالتنبؤ بالمستقبل فقد تطور من اعمال التنجيم الى علم المستقبل والدراسات المستقبلية.
الدراسات المستقبلية : ان دراسة المستقبل ليست ترفا لأناس يهتمون بالتأمل في مصيرهم, بل مغامرة لها تكاليفها التي ترتفع الى شرف المقصد, وجهد مركب يحتدم الجدل حول "ماهيته", ولا يختلف حول "اهميته", وضرورة الاهتمام به على صعيد الدولة ومؤسساتها العلمية والاكاديمية وحتى الاحزاب السياسية ومعاهد البحوث والدراسات في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية ....الخ. وفي مطلع السبعينيات من القرن العشرين لوحظ تغيرين مهمين في نظرة الناس الى ألمستقبل: اولهما ان الناس اصبحوا على قناعة بإمكانية دراسة المستقبل. وثانيهما هو الاعتراف بان المستقبل عالم قابل للتشكيل, وليس شيئا معدا سلفا. والبشر لا يسيرون مغمضي الاعين نحو عالم جبري تنعدم فيه حرية الاختيار, بل انهم شركاء فاعلون في تكوين عالم المستقبل.
تمكن الانسان لأول مرة في السبعينيات بفضل تطور المعرفة العلمية وتقدم التكنولوجيا من وضع المستقبل في اطار علمي دقيق. لكن الجدل ظل محتدما لا يستقر ولا يهدأ حول ماهية الدراسات المستقبلية وتكييف طبيعتها, حيث توزعت الآراء على مروحة عريضة من التباينات بين قائل يراها "علما" وآخر يصنفها "فنا" وثالث يعتبرها في منطقة وسطى بين العلم والفن, أو "دراسة بينية" تتقاطع فيها التخصصات وتتعدد المعارف.
وعموما يرى الكثير من العلماء ان تسمية "علم المستقبل" تسمية مبالغ فيها, فهي توشك ان توحي بان المستقبلية تدرك بوضوح غايتها, وقادرة على بلوغ نتائج مضمونة حقا, وهذا الامر مخالف للحقيقة, لذا اكد "فريد بولاك" في كتابه تصورات المستقبل ان المستقبل مجهول, فكيف نرسي علما على المجهول, وسبقه في هذا التأكيد العالم الفرنسي "برن راند دي جوفنال" في كتابه فن التكهن, فالمستقبل كما يقول ليس عالم اليقين, بل عالم الاحتمالات, والمستقبل ليس محددا يقينيا, فكيف يكون موضوع علم من العلوم, واتجهت الاغلبية العظمى من اراء العلماء الى اطلاق مصطلح "الدراسات المستقبلية" بدل مصطلح "علم المستقبل", وقد كان تقريرا صادرا عن الحكومة السويدية في عام 1974, قاطعا في رفضه لمصطلح "علم المستقبل" وانحاز عوضا عنه الى مصطلح "الدراسات المستقبلية". يتبع>>>>>>>>