المنبرالحر

الشرعية السياسية والتحول الديمقراطي / د. ماجد احمد الزاملي

جوهر الشرعية لا يمكن فرضه بالسطوة والرهبة حتى لو تحججنا بالقوانين المكتوبة وبالدساتير ، ومن هذا المنطلق فإن الأنظمة غير الشرعية ، أو التي انتفت شرعيتها نتيجة لممارسات غير قانونية تسارع عادة إلي تعليق الدساتير وتلجأ إلي العمل بالأحكام العرفية ، وهو اعتراف صريح من جانب هذه الأنظمة بأن قانونيتها مع ما هي عليه من شكلية لم تعد مبررا كافيا لممارسة السلطة. كما لم يعد مبررا أن يتم في إطار ممارسة السلطة أن يبقى مبدأ تفضيل الموالين للنظام الحاكم في مواجهة الإصلاحيين وأهل الخبرة هو الأساس الذي يتم وفقا له ممارسة السلطة وتكريسها لصالح فرد ما أو نخبة ما، وفي مقابل ذلك يكون لهؤلاء مصلحة في بقاء واستمرار الطغمة الحاكمة رغم انتفاء الشرعية عنها، وهو ما يدفعهم إلي المشاركة و الدفاع عن سياسات وممارسات الترهيب وقمع الجماهير ، كما أنها تتولى الترويج لمنجزات النظام الحاكم وافتعال الأزمات الداخلية والخارجية لتبرير التقاعس والفشل، بمعني أنهم يقومون بالدور الأساسي في تبرير وفرض وسائل شرعيتها من خلال مؤسسات الدولة المتعددة كأجهزة الإعلام والأمن وغيرها.
يمكن التعامل مع أزمة الشرعية علي مستويين رئيسيين يعبران عن جوهر تلك المشكلة يرتبط أولهما بما يعرف بأزمة الشرعية السياسية، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بكثير من القضايا المتعلقة ببناء الدولة كمشكلات التحول الاجتماعي والتطور الاقتصادي وقضايا الديمقراطية وغيرها، كما أشار ماكس فيبر بإقراره أن النظام الحاكم يكتسب شرعيته من شعور المحكومين بأحقيته وجدارته في الحكم ، وأنه دون الشرعية يصعب على أي نظام حاكم أن يملك القدرة الضرورية علي إدارة الصراع بالدرجة اللازمة في المدى البعيد، ومن ثم يبقى جوهر الشرعية متمثلاً في ضرورة رضا وقبول المحكومين وليس إذعانهم لفرد أو نخبة في أن يمارسوا السلطة عليهم.
الأنظمة السلطوية بقيت تعاني من فقدان الشرعية السياسية بدرجات متفاوتة تصل في بعضها إلي مستوى الأزمة الحقيقية، وتتجسد في فقدان الثقة بينها وبين المواطنين وانعدام الثقة والمصداقية في قدرتها على إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما لم تتيح تلك الأنظمة للمواطنين الفرصة للتعبير السلمي عن الاضطهاد الذي يتعرضون له ولا تلبية رغباتهم في تغيير القيادات الفاسدة وغير المقبولة شعبيا.
و أزمة الشرعية السياسية قد تلازمت مع ما يعرف بأزمة الشرعية الدولية والتي تعني قبول ورضا المجتمع الدولي عن دولة متخلفة ما، لقد أسهم في تنامي تلك الأزمة انتهاء الحرب الباردة وانهيار القطبية الثنائية، حيث دأبت الدول المانحة الأوروبية والأمريكية وعلى رأسها الولايات المتحدة في إطار سعيها لتكريس هيمنتها و التدخل في الشؤون الداخلية للدول ، سواء بشكل مباشر ، في محاولة لتشويه صورة الدول المتخلفة أمام المجتمع الدولي وإظهارها في وضع الدول الخارجة عن المجتمع الدولي وحرصت في ذات الوقت على دفع مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات عليها ، أو قيام الولايات المتحدة بأعمال عدوانية ضد تلك الدول متذرعة بذرائع مختلقة وواهية ومنها أنها تدعم الإرهاب ، أو أنها نظم غير ديموقراطية وغير ذلك من الذرائع التي تتستر وراءها لإضفاء المشروعية على سياساتها وممارساتها العدوانية تجاه العديد من الدول، وفي إطار استراتيجيتها للهيمنة والسيطرة. ومن ثم فإن الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها علي الدول تحت غطاء الشرعية الدولية، ومن أجل إحداث التحولات السياسية والاقتصادية، وإن كان في ظاهرها الإصلاح ، إلا أن الواقع يشير إلي أن الهدف الأساسي من وراء ذلك ، هو إيجاد لغة تخاطب وآلية سياسية واقتصادية واحدة بينها وبين تلك الدول بحيث تتيح لها فرصة وحرية التدخل وإحكام سيطرتها علي قدراتها ومواردها.
عدم الاستقرار السياسي يؤدى إلى زعزعة الأمن داخل الدول ويعد مصدر تهديد مباشر للنظام الحاكم ويعد أيضا مؤشرا على التدهور السياسي ويلاحظ أن الحركات الوطنية في ظل الحكم الاستبدادي او الاستعماري لم تضع الأسس الكافية من أجل الدول لفترة ما بعد الديكتاتورية او الاستقلال أو أن أنظمة الحكم لفترة ما بعد الاستقلال تولت الإلغاء للإجراءات الحديثة الموضوعة قبل سقوط الانظمة الديكتاتورية او قبل الاستقلال وخصوصا فيما يتعلق بعمليات بناء الأمة، الشرعية ، تحقيق الذات، النفوذ، المشاركة، التوزيع، الاندماج وغيرها. . أن تغييرات الحكم وحالة عدم الاستقرار تعكس حالة من الانحراف السياسي من مسار ما قبل الاستقلال الذي كان يركز على إنهاء الاستعمار وترسيخ الاستقلال والاهتمام بالأمور المتعلقة بالتنمية الشاملة والانشغال بتركيز السلطة والتشبث برموزها وبمصالح النخبة الحاكمة. ومن ثم فقد بات مستقرا في أذهان المواطنين من ناحية ، والحكام من ناحية أخري في الدول التي عانت من الديكتاتورية او الاستعمار أن المخرج من حالة عدم الاستقرار والعنف المتفشية في دولها لن يكون سوى بإعادة النظر في السياسات والممارسات المتعلقة بالديمقراطية وضرورة المشاركة السياسية لجميع القوي داخل تلك الدول.
برزت قضية الديمقراطية باعتبارها محور أزمة التطور السياسي في البلدان التي استقلت حديثا أو البلدان التي كانت ترزح تحت انظمة استبدادية ، بعد أن فشلت استراتيجيات التنمية التي تبنتها الحكومات التسلطية في تحقيق المهام السياسية التي حددتها ، وبدلا من الوصول بالمجتمع إلى حالة من الوحدة والتجانس دفعت به إلى حالة الانقسام والتمايز العرقي، وبدلا من تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، عملت على نشر الفساد وعدم المساواة في المجتمع، وبدلا من تحقيق التنمية الاقتصادية عززت الكساد المادي والانحراف وبدلا من تأسيس أنظمة سياسية فعّاله خلقت توجهات انفصالية وانقلابات عسكرية وحروب أهلية بما أدى إلى بقاء المجتمعات والشعوب رهينة الأزمة الدائمة، والتي يعزى السبب في تكوينها والإبقاء عليها إلى غياب الديمقراطية، ذلك أن التحول الديمقراطي لا يعكس فقط الجوانب النظرية والأخلاقية التي تقف وراء البحث عن بديل للمأزق السلطوي القائم وإنما يعكس كذلك المطالب الشعبية الملحة من أجل التغيير. و ينبغي التركيز في هذا الشأن على ضرورة وأهمية العلاقات المتداخلة والمشتركة بين المجالات الاقتصادية والتعددية السياسية والتجارب الديمقراطية فالمساواة مثلا ليست فقط بين الجماعات الإثنية والطائفية ولكن أيضا فيما بين الطبقات الاجتماعية ، كما أن التكاليف السياسية للفشل الاقتصادي تكون كبيرة وقد تؤدى إلى انهيار أنظمة سياسية بكاملها وهو ما يمكن ملاحظته في أنحاء عديدة في دول العالم النامي.