المنبرالحر

درس بليغ من كادحينا / ناصر حسين

معروف وبالدقة ان السوق في الدولة الرأسمالية يرد، وعلى الفور، على القرارات الاقتصادية التي تصدرها الدولة، فعندما تجري الدولة بعض التعديل، ولو كان طفيفاً، على رواتب هذه الفئة الاجتماعية او تلك، سواء أكانوا متقاعدين مثلاً ، أو عمالا ممن يستحقون الضمان الاجتماعي، أو موظفين، يرد السوق برفع الاسعار، فيبتلع ما تقرر من زيادة للرواتب والأجور. ولاكثر من مرة لاحظت ان السوق رد برفع الاسعار حتى قبل ان تصرف تلك الزيادات للمشمولين بها . وكم من مرة جرت ردود افعال على قرارات اصدرتها الحكومة، بعضها كان صحيحاً والبعض الاخر كان خاطئاً، واحياناً تكون للسخرية من تلك القرارات من جهة الفعل ومن جهة رد الفعل .
عام 1956 مثلاً سيرت الحكومة باصات لمصلحة نقل الركاب من نوع المرسيدس الممتاز على طريق نجف – كوفة وبأسعار متهاودة ، اضرب سواق السيارات الاهلية عن العمل مطالبين بالغاء ذلك الخط الحكومي لنقل الركاب . لكن المجتمع لم يقاطعها واخذ يتنقل فيها، وبعد ايام معدودات انهى سواق السيارات اضرابهم وتعايش الاثنان ولسنين طويلة، اذ لم تعد تعمل غير سيارات القطاع الخاص، فقد باع الدكتاتور ما تمتلك الدولة من سيارات عمومية لنقل الركاب بالمزادات العلنية التي اقيمت لهذا الغرض .
وفي تلك الفترة ايضاً اعلنت الدولة تسعيرة لبعض المواد الغذائية ومنها مادة الشلغم. فطيرّ احدهم برقية معنونة الى رئيس الوزراء يخاطبه فيها وبسخرية واضحة ( تسعيركم الشلغم اثلج صدورنا ) الشعب جائع والحكومة تسعّر الشلغم ، فهل كان تسعير الشلغم هو المطلوب تحقيقه !
نيسان من العام 1960 قررت الحكومة زيادة اسعار البنزين ، فرد الجمهور بتظاهرات تطالب بالغاء تلك الزيادات . فزيادة سعر مادة استهلاكية يتعامل بها الشعب صباح ومساء ليس هو الطريق لزيادة موارد موازنة الدولة .
وللنضال اشكاله المختلفة يحددها الزمان والمكان والوسائل المتاحة ـ اتذكر عام 1976 مساء احد الايام ،اذيع في احدى نشرات الاخبار المرئية والمسموعة عن زيادة في السعر المقرر من قبل الدولة لتزويد تجار الجملة والمفرد بمادة السكر من قبل مصلحة المبايعات الحكومية . صباح اليوم التالي دعا الرفاق ممثلو الحزب الشيوعي العراقي في سكرتارية اللجنة العليا للجبهة الى عقد اجتماع طارئ للسكرتارية . وعقد الاجتماع فعلاً، وطرح الرفاق استفساراً عن مبررات رفع سعر مادة السكر وهي مادة دائمة الاستعمال من قبل الشعب، اجاب ممثلو الحزب الحاكم بان مصلحة المبايعات الحكومية تعاني من خسارة، ولهذا تقرر رفع سعر مادة السكر للتعويض عن تلك الخسارة. ردّ رفاقنا عليهم بان مصلحة المبايعات ليست رأسمالياً مستقلاً اذا خسر في بيع ما لديه من سلع خسر رأسماله، انها مؤسسة حكومية بامكان الحكومة تعويضها عن خسائرها عن طريق مناقلة من ابواب لديها فيض في المبالغ كوزارة المالية مثلاً، فاضطروا الى التراجع عن قرارهم .
ان الرأسمال يبحث دائماً عن اعلى الارباح ، هذا واقع معروف ولا نقاش عليه . لكن دائماً يميل من خلال الجشع الى الاعلى فالاعلى .
بعض التجار يتعاملون الان بالمستورد ويفضلونه على المحلي فهو اكثر ربحاً لهم . مصالحهم الطبقية تدفعهم الى هذه الوجهة فهم اصحاب شركات تجارية متخصصة في الاستيراد الخارجي. وعليه يلاحظ دائماً عندما تقرر الدولة ايقاف استيراد بعض الفواكه والخضر حماية للمنتج المحلي وقت موسمه، يغيض تجار الاستيراد هذا القرار فيسعون الى التجاوز عليه، ولديهم اساليبهم ووسائلهم المعروفة، ولديهم الاموال الطائلة التي تساعدهم على تحقيق مآربهم . حل قبل ايام وقت جني محصول الطماطم الصيفي، وعليه فالأمر يتطلب منع استيراد محصول الطماطم من الخارج كإجراء حمائي للمنتج المحلي .
بشكل مفاجئ ارتفع سعر كيلو الطماطم ليصل الى الفين وخمسمائة دينار، هكذا فعلوا وكانوا يفعلون دائماً لإثارة ضجة تضطر الحكومة معها الى إلغاء قرارها , الطماطم مادة تحتاجها العائلة العراقية يومياً . وهذه ليست المرة الاولى . الجديد في الامر ان كادحينا تصرفوا هذه المرة تصرفاً مغايراً، لم ينقموا على الاجراء الحكومي ويطالبوا بإلغائه، بل امتنع الكادحون عن شراء الطماطم من السوق واستبدلوها بمعجون الطماطم .
الطماطم مادة سريعة التلف ، وعليه أصبح التجار مضطرين الى تخفيض سعر كيلو الطماطم ليباع في السوق حتى بسعر سبعمائة وخمسين دينارا فقط . وهذا درس بليغ ينبغي ان ينتبه اليه الجميع . كادحونا قرروا ، قراراً لم يكتبوه على ورق . لكنه كان قراراً للتنفيذ ونفذ فعلاً.
فتحية للكادح العراقي الذي أخذ يعي ما يدور حوله ، فأخذ يبدع في اتخاذ ما يتلاءم مع مصالحه من قرارات ويضعها موضع التطبيق العملي .
ويبقى السؤال ماذا سيفعلون في المرة اللاحقة إذا ما قرروا رفع سعر الطماطم إلى مستوى لا يطاق فيضطر المواطن إلى مقاطعتها واستبدالها بالمعجون , هل يسحبون المعجون من السوق لإرغام المستهلك العراقي على شراء الطماطم منهم وبالاسعار التي يريدون ؟
في تصوري أن الكادحين حينذاك سيعوضون عن تناول المأكولات التي تحتاج إلى طماطم أو معجون فيضطروهم الى التراجع عن موقفهم، فهذا هو شعبنا كان دائماً عنيداً في مجابهة من يسيئون إليه ويلحقون به الضرر .
الكاتب السوفيتي لوتسكي في مؤلفه "أربعة قرون من تاريخ المنطقة العربية" يذكر انه ((طيلة الأربعمائة سنة الأخيرة من السيطرة العثمانية على العراق لم يمر عام واحد دون أن تكون هناك انتفاضة في هذا الجزء منه أو ذاك )) .