المنبرالحر

هكذا اعترف عبد الناصر بأخطائه وعجز عن تصحيحها / رضي السمٰاك

لا أظن أحداً يُجادل بكل المقاييس الموضوعية فيما يُحسب للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قائد ثورة يوليو / تموز 1952 من تشييده نظاماً ذا توجه "اشتراكي " بإسلوبه وفلسفته الخاصة المقتبس معظمها من تجارب المنظومة الإشتراكية وما حققه في ظل هذا النظام لشعبه من مكتسبات إجتماعية هامة فضلاً عن دعمه لحركات التحرر العربية وتصديه للمخططات الإميركية والاستعمارية في المنطقة ، بيد أن واحداً من أشد الأخطاء القاتلة التي وقع فيها ناصر تفرده في الحكم الفرد واتخاذ القرارات المصيرية واعتماده على جهاز المخابرات على نحو مُفرط هوسي أخذ يُطال حتى أقرب وأصدق الناس من حلفائه من ساسة ومثقفين ولاسيما ذوي الميول اليسارية ، وهو ما أفضى إلى كارثة هزيمة يونيو / حزيران 1967 التي مرت ذكراها الخمسون قبل شهرين ونيّف .
ومع إن عبد الناصر سرعان ما أدرك ببصيرة ثاقبة غداة النكسة الثغرات السياسية الخطيرة التي أعتورت نظامه السياسي وأفضت لتلك الكارثة وبخاصة تغييب الديمقراطية وحددها في أول خطاب له بعد النكسة ( ٢٣ يوليو 1967 ) ووعد بإصلاحها رافعاً في السنوات الثلاث الأخيرة المتبقية من حياته بعد الهزيمة شعارات تصفية مراكز القوى وسيادة القانون وإعادة بناء التنظيم السياسي " الاتحاد الاشتراكي " من القاعدة إلى القمة ، والإنصات لآراء ونبض الجماهير وتوّعد بوضع حد لتغوّل أجهزة الاستخبارات في حياة الناس العادية إلا أنه عجز عملياً عن التخلي عن اسلوبه القديم في التفرد في الحكم وإطلاق يد المخابرات في تعقب مخالفيه في الرأي والتجسس على أبسط شئون حياة الناس الشخصية
ففي واحد من سلسلة أحاديثه إلى قناة " الجزيرة " يميط مستودع أسراره وواحد من أقرب المقربين إليه محمد حسنين هيكل اللثام عن واحدة من أغرب الوقائع االتي تعكس الطباع والسلكيات المتأصلة في عبد الناصر التي جُبل عليها رغم تناقضها تماماً للشعارات التي رفعها بعد الهزيمة ، ذلك بأنه في / نيسان 1970 غداة إقدام ناصر نفسه على تعيين هيكل وزيراً للثقافة والإرشاد القومي ( الإعلام ) ، رغم اعتذاره المسبق إليه عن قبول تولي أي منصب حكومي وإيثاره البقاء في عمله الصحفي كرئيس لتحرير" الأهرام " ، فإن عبد الناصر لم يعبأ برفض هيكل ، حتى بوغت الأخير بسماعه تعيينه من الراديو وهو ما أزعجه وأثار أيضاً قلق معظم كبار المحررين والاداريين في الإهرام فضلاً عن كبار الكتّاب والأدباء والمفكرين الذين يكتبون في الصحيفة ، وعلى رأسهم توفيق الحكيم الذي أرسل لعبد الناصر رسالةً عبّر فيه بلطف عن عدم عقلانية القرار وخطورة تبعاته على استقلالية الأهرم وحرية الصحافة عامةً .
ويضيف هيكل بأنه فوجئ أيضاً ذات صباح في الصحيفة بعد أيام قليلة من تعيينه وزيراً بنبأ اعتقال مديرة مكتبه نوال المحلاوي وزوجها والكاتب اليساري المستقل لطفي الخولي وزوجته ، والخولي كما هو معروف كان رئيساً لتحرير مجلة "الطليعة " اليسارية ومكاتبها كائنة في مبنى الأهرام ، واتضح لهيكل لاحقاً بعد أن فاتح الرئيس في الموضوع أن الخولي قد أقام حفلة عشاء في منزله وكان ضمن من استضافهم فيها المحلاوي وزوجها وخلال تلك الاُمسية جرت "فضفضة " عادية حول حديث الساعة الذي يقلقهم ألا هو تبعات قرار تعيين هيكل وزيراً للإعلام على الصحيفة مع احتفاظه برئاسة تحريرها ، فعبّرت المحلاوي عن امتعاضها من القرار واصفةً عبد الناصر لإقدامه على هذه الخطوة : " He must have gone mad " أي لا بد أن أصابه مساً من الجنون ، واتضح ان تفاصيل وقائع هذه " الفضفضة " بكاملها نُقلت لعبد الناصر من خلال أجهزة التنصت التي زرعتها أجهزة مخابراته في منزل الخولي فقرر على الفور اعتقال الأربعة ، وأسمع الرئيس هيكل في مكتب منزله التسجيل الكامل للدردشات التي جرت تلك الليلة بين ضيوف الخولي ، كما أطلعه في نفس الوقت على الأوراق المدوّن فيها حرفياً التسجيلات كتابياً ، ويتابع هيكل بأن الرئيس ظل طوال حديثه معه يعبّر عن امتعاضه الشديد مما جرى بحقه من كلام يمس شخصيته وعلى وجه الخصوص من تلك العبارة الإنجليزية التي تفوهت بها نوال المحلاوي والتي ظل يكررها عليه مرات ومرات مستنكراً إياها في حين عبّر هيكل من جانبه عن انزعاجه الشديد لاعتقال مديرة مكتبه وبأنه هو المقصود من العملية وهناك من يتربص به داخل السلطة ( قاصداً من لهم صلة بأجهزة الاستخبارات في مكتب الرئيس ، وتحديداً سامي شرف مؤسس الاستخبارات العامة وذراعه الضاربة فيها ) .
أكثر من ذلك فإن هيكل سبق له أن روى في حديث آخر للجزيرة بأن عبد الناصر أخبره بأن احدى المكالمات الهاتفية التي أجراها ذات مرة مع مسؤول في رئاسة الجمهورية كانت مُسجلة واستمع لتسجيلها بالكامل وكأن عبد الناصر أراد من ذلك إيصال رسالة إليه رغم أنه واحد من أقرب المقربين له : " خلي بالك من نفسك وأوعَ تقول أي رأي مخالف للرئيس ! الأغرب من ذلك في رواية هيكل عن حادث اعتقال مديرته المحلاوي أن عبد الناصر سبق له أن أبدى لهيكل بعد زيارة له للأهرام إعجابه الشديد بكفاءتها وما بدت عليه من فن "أتاكيت " تتمتع به في التعامل مع كبار الشخصيات بعد تقديمها للرئيس فنجان قهوة ، وطلب من هيكل أن تكون المحلاوي ضمن الذين يشرفون على تدريب إبنته هدى التي تود العمل في الإهرام بعد أن نالت بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة القاهرة .
ماذا يستخلص المرء من كل تلك الواقعة الغريبة التي رواها هيكل بعد صعقه على حين غرة بنبأ اعتقال مديرة مكتبه ؟ ببساطة شديدة ورغم ما يتمتع به عبد الناصر من شعبية جارفة ورغم صلابته الوطنية وصموده في مواجهة أعداء وطنه مصر واُمته العربية المتمثلين في اسرائيل واميركا والغرب عامةً فإن ثمة دلالتين مستخلصتين من تلك الواقعة التي جرت في تلك الظروف الدقيقة التي يستعد فيها عبد الناصر لتهيئة بلاده لخوض معركة تحرير سيناء من الاحتلال الاسرائيلي :
الأولى : إن عبد الناصر لم يتعلم ولم يعِ جيداً عمق الأسباب التي أوقعته وبلاده في الهزيمة أو لا يؤمن بآثارها وعلى رأسها كما اتفق شتى المحللين والباحثين تغييب الديمقراطية من نهج حكمه رغم اعترافه ضمنياً بُعيد النكسة - كما - أسلفنا بتغييب النهج الديمقراطي عن حكمه .
الثانية : إن هيكل نفسه ، ورغم ما يُحسب له كشفه النقاب عن خفايا تلك الواقعة والذي جاء متأخراً جداً قبيل سنوات قليلة فقط من رحيله العام الماضي، لم يتوقف طويلاً في تحليل أبعادهاالسياسية الخطيرة البعيدة المدى ليس فقط لكونهى تعكس ضيق صدر عبد الناصر بالرأي الآخر واعتماده على أجهزة استخباراته لجس نبض الناس في كل شاردة وواردة تخالف قناعاته ومزاجه الشخصي صغيرة جاعلاً منها - المخابرات - أشبه بمحاكم تفتيش فعلية تفتش بما يجيش في في مكنون صدورهم ، بل وبمصادرة أبسط حق لمقربيه في رفض المهمة التي يُكلفون بها حينما أصرّ على إصدار قرار تعيينه وزيراً دون رغبته وبدون علمه !