المنبرالحر

العراق ما قبل الدولة الحديثة (3) / فارس كريم فارس

في عام 1743م توجه نادر شاه بجيوشه نحو العراق, وعبر الحدود بالقرب من مندلي, بعد ان اتخذ ذريعة رفض السلطان العثماني الاعتراف الرسمي بالمذهب الجعفري فاعلن الحرب على الدولة العثمانية. ومما يلفت النظر ان نادر شاه حين غزا العراق هذه المرة لم يتحرش ببغداد وبواليها احمد باشا, وقد سمح له احمد باشا بان يستولي على جميع مزارع بغداد ليمون بها جيوشه الغازية....حيث اجتاح كركوك واربيل ووصل الى مقربة من الموصل ثم فرض عليها الحصار واخذ يقصفها بالمدافع ويشن عليها الهجمات....ودام الحصار اثنين واربعين يوما قذف فيها على البلدة ما يزيد على الاربعين الف قنبلة وشنت عليها خمس هجمات. ودافع اهل الموصل عن بلدتهم دفاعا بطوليا .
مما اضطر الشاه ان يطلب الصلح من اهل الموصل....وسار بجيوشه الى بغداد ليطلب الصلح مع الدولة العثمانية....ثم توجه الى النجف حيث عقد العزم على عقد مؤتمر عام يجتمع فيه علماء الشيعة والسنة لوضع اسس التوفيق بين الطائفتين المتعاديتين. نجح مؤتمر النجف وكان العامل الاساسي للنجاح هو "ارادة الجبار" ونعني ارادة نادر شاه. لم تستقر الاوضاع بين الدولتين واستمرت المواجهات بالسف والقلم, وبعد اغتيال نادر شاه وتأسيس الدولة القاجارية في عام 1796م استمرت الحروب بين الدولتين القاجارية والعثمانية ولم تتوقف نهائيا حتى عام 1822م حيث عقد مؤتمر ارضروم وتم فيه الصلح وتعيين الحدود بينهما بشكل ثابت ولكن ذلك لم يخفف من حدة الجدال الطائفي بالقلم وبشكل اوسع من السابق .
من الواضح ان العراق صار موضع نزاع عنيف بين الدولتين الايرانية والعثمانية واستمر ما يزيد على ثلاثة قرون, ومن هنا نشأ المثل المشهور في العراق: "بين العجم والروم بلوى ابتلينا" حيث كان العراقيون يطلقون على الاتراك اسم الروم لكونهم جاءوا من جهة الروم. المهم ان هذه "البلوى" التي ابتلى بها العراق اذ ذاك نشأت من كون الدولة الايرانية اتخذت التشيع شعارا لها (اي الادعاء بالتمسك باهل بيت النبي) بينما اتخذت الدولة العثمانية شعار التسنن ( اي الادعاء بالتمسك بأصحاب النبي), والواقع انهما كانا بعيدين عما كان يدعو اليه اهل بيت النبي واصحابه معا, حيث كانت كلتاهما من الدول الاستبدادية القديمة....وبالرغم من ذلك ادى الصراع بينهما الى استفحال الصراع الطائفي في العراق الى درجة لا تطاق....رغم ان الصراع الطائفي كان موجود في العراق منذ صدر الاسلام, وطالما شهدت بغداد في العهد العباسي معارك بين المحلات السنية والشيعية يسقط فيها الكثير من القتلى وتحرق البيوت والاسواق وتنتهك حرمة المراقد.
ومع دخول البلاد القرن الثامن عشر, بلغ الانحطاط اسفل درجاته عندما انخفض سكان العراق الى حدود نصف مليون نسمة , مقارنة بعدد سكانه المقدر بـ30 مليون نسمة في عصر الازدهار العباسي , مقابل انتعاش سلطة القبائل الرحل, وانتقال زمام الحكم فعلياً من الحكومة الى ايدي رؤساء الاتحادات القبلية . ان العراقيين كانوا بحكم نزعتهم البدوية ينظرون الى الحكومة كأنها عدوة لهم تريد الاضرار بهم ولا تريد الخير, ولما فرضت عليهم التجنيد اخذوا يتهربون منه على منوال ما يتهربون من الضريبة والسخرة...كما كان الفرد العراقي مستعدا لتحمل اعظم المشاق في سبيل العصبية التي ينتمي اليها سواء كانت قبلية او محلية او بلدية او طائفية ولكنه عندما تطلب منه الحكومة اي شيء يحاول النكاية بها بدل التعاون. وبمقدار ما تضعف سلطة الحكومة ينثال الناس على الدوائر والمؤسسات الحكومية لنهبها وحرقها انتقاما...وهذا ما حدث كثيرا في التاريخ العراقي القديم والحديث ........والى وقتنا الحاضر.
كما ان الاوبئة كانت تجتاح العراق مرة كل عشرة سنوات تقريبا في العهد العثماني.........وكانت هذه الاوبئة بالإضافة الى الفيضانات من اشد العوامل تأثيرا في توهين الحضارة وفي تدعيم المد البدوي في البلاد, اذ هي تكون عادة اشد وطأة على سكان المدن منها على سكان البادية والارياف, وكلما كانت المدن اكبر واكثر ازدحاما بالسكان كان تأثير الوباء فيها افظع.
ان الكوارث التي حلت ببغداد خلال القرون 17 و 18 و 19 والمسجلة هي: 1621 مجاعة, 1623 الفرس يذبحون "مئات الالوف" من السنة ويبيعون "الافا" منهم عبيدا. 1633 فيضان, 1635 وباء, 1638 مجزرة عامة نفذها الاتراك راح ضحيتها 30 الف شخص معظمهم من الفرس, 1656 فيضان, 1689 مجاعة ووباء, 1733 حصار فارسي اكثر من 100 الف ماتوا جوعا- طاعون. 1777-1778 حرب اهلية في بغداد, 1786 فيضان- محصول فاشل- اضطرابات مدنية. 1802-1803 وباء فناء معظم سكان العراق, 1822 وباء- فيضان, 1831 وباء- فيضان- حصار- مجاعة- هبط عدد سكان بعداد من 80 الف نسمة الى 27 الفا. 1877- 1878 وباء مجاعة, 1892 فيضان, 1895 فيضان.
وعموما بغياب سلطة الحكومة نتيجة الضعف والتفسخ الذي اصاب الامبراطورية العثمانية في اواخر عهدها, انهارت سلطة القانون وحل العرف العشائري وشاعت قيم البداوة من عصبية وغزو ونهب وسلب وقطع الطرق وغسل العار واحترام القوة (العنف) والغلبة والانتصار والتفاخر, كما شاعت هذه القيم ايضا في المدن بالتعصب للمحلة. وهذه الانقسامات عبرت عن نزعة فطرية للحصول على الحماية من خلال وحدة الجماعة ( العشيرة, الطائفة, المحلة) في غياب حماية الدولة. ويرتبط بذلك ان التراث الاجتماعي الذي ظل سائدا في العراق طيلة هذه الفترة - وما زالت اثاره باقية- قد تميز بأمرين: اولهما التعصب الطائفي, وثانيهما المد القبلي.
استمر العراق يعيش وضعه الراكد....الى ان سجل عام 1869م حدثين تاريخيين بارزين من حيث اهميتهما الاجتماعية وتأثيرهما الحضاري في العراق, هما افتتاح قناة السويس وتعيين مدحت باشا واليا على بغداد. قاد الحدث الاول الى تقريب المسافة البحرية مع اوربا وسهل سبل السفر ونقل البضائع بالإضافة الى اسراع التأثير الفكري الاوربي, واخذ المجتمع العراقي يتحول في اتجاهاته الفكرية من الشرق (ايران) الى الغرب (مصر والشام) وبعبارة اخرى بدا التحول من الوعي الطائفي الى الوعي الوطني. وكذلك شهدت البلاد بوادر ظاهرة اجتماعية من نوع جديد تجسدت في الصراع ما بين القديم والحديث.
اما مدحت باشا (1869- 1872) فهو رجل مصلح عرف بجهوده في مجال الاعمار والتجديد في العراق, وخاصة في بغداد فقد احدث ما يشبه الثورة. بدا عهده بمحاربة الرشوة والفساد وتنظيم الجهاز الاداري وفق قانون الولايات العثماني الصادر عام 1864, اذ شمل كل من الولايات الثلاث تقسيم اداري متدرج ترتبط بكل منها مجموعة اقضية, وكل قضاء مقسم الى عدد من النواحي, وارتبطت بكل ناحية مجموعة من القرى, وبذلك تم ارساء دعائم الادارة الحديثة لأول مرة بخلق ادارة مركزية منظمة يكون مركزها بغداد وتتولى الاشراف على شؤون العراق بأجمعه.
كان لسياسة مدحت باشا اثرها في استقرار بعض القبائل وتشجيعهم على الاستيطان والزراعة ونشوء مدن جديدة مثل الرمادي والناصرية والعمارة, كما تم انشاء اول دائرة للطابو (التسجيل العقاري) كان لها اثار بعيدة باتجاه دمج القبائل بالمجتمع العراقي. تم انشاء مدرسة مهنية (مدرسة الصنائع) واعدادية لتخريج الموظفين, كما اشتهر عهده بإصدار اول صحيفة عراقية حديثة الزوراء وصدر عددها الاول في حزيران/يونيو 1869م.
وحيث لا يمكن اغفال فترة ولاية مدحت باشا, ودورها الفاعل في تحريك الاوضاع الراكدة .....الا ان من خلفه كان على الاغلب يشكو من قلة الكفاءة وشحة الامكانيات حتى كانت الامية احد ابرز معالم الحياة الثقافية في العراق....جراء بطء عمليات الاصلاح ولا مبالاة الولاة العثمانيين, وكان من نتائج الاهمال والعزلة الذي نال العراق, ان تمتع الولاة العثمانيون والطاقم الاداري المحيط بهم سلطة مطلقة, وكان من الطبيعي ان تفرض هذه الاوضاع بظلها الثقيل على الاوضاع الاجتماعية في العراق, فلم يتح اي مجال لأبناء البلد من المشاركة في الحياة العامة وبقي العنصر التركي هو المسيطر على الحلقات الادارية, في حين ركن العنصر العربي لأداء مهام وظيفية متواضعة, خاضعة بشكل مطلق لرغبات واهواء العنصر التركي, مما جعل ابناء البلد يأنفون من الانخراط في سلك الوظيفة الحكومية, حتى كانت الاحداث الناجمة عن وصول جمعية الاتحاد والترقي الى السلطة واعلانها الى اعادة العمل بالدستور في 23 يوليو عام 1908م . والتحول في مسار السلطة السياسية من الاستناد الى سلطنة فردية ممثلة في السلطان, نحو حكومة تقوم على الحقوق الدستورية.
يتبع