المنبرالحر

لماذا كل هذا الخوف من التيار المدني؟ / جواد وادي

لم يكن التيار المدني وليد وقته ولا يومه بل ولا من ضرورات لحظته، ولكنه تيار عريق له من التاريخ في إعادة بناء الحالات المختلة في المجتمعات كافة سواء كانت محلية او إقليمية، وفي المقدمة الإنجازات الدولية التي حققها في الأمم المتقدمة بعد أن خرجت من شرنقة السلطة الدينية وتحكم الكنيسة في كل مفاصل الدولة وفي ألف باء حياة المواطن الذي كانت السلطة الاكليركية تسومه العذاب وتمارس سلطتها التعسفية باسم الدين وبدعم ومباركة السلطة السياسية، بسنها قوانين ادعت أنها مستمدة من الحكم الإلهي وارتكبت الأهوال بحق المفكرين والمثقفين ودعاة الحرية والدفاع عن كرامة الإنسان والدعوة لتطبيق العلمانية ونظام الحكم المدني الكفيلان بالخروج من عنق الزجاجة وتنفس نسيم الحرية بتطبيق مبدأ الدين لله والوطن للجميع، أي الدعوة لفصل الدين عن الدولة وسن قوانين وضعية حديثة تحترم عقائد ومذاهب واتجاهات الجميع دونما تضارب أو تناحر أو صدامات، وغالبا ما يفتعل المواجهات بعض رجال الدين لإيصال خطاب لعامة الناس أن الاتجاه العلماني يغيّب حرية المعتقد الديني، وطبعا الأهداف كلها معروفة، لأن هم أصحاب السلطة الدينية هو البقاء على الهيمنة والتسلط على رقاب الناس للحفاظ على الامتيازات والحظوة وبسط سلطة القمع الديني، إما عن طريق تخويف الناس بيوم الحساب، أو عدم تدنيس المقدس وغيرها من التهويلات بقصد اخضاع الجميع لسلطتهم الجائرة.
حتى ظهرت أصوات احتجاج ضد ذلك التغييب للناس ووضع خطوط حمراء بينهم وبين سلطة الكنيسة والخضوع الأعمى لرجال الدين وما يمارسونه من بطش وتنكيل وقتل ومذابح بحق الأبرياء وكل من تسول له نفسه بالخروج عن المقدس، وراح نتيجة هذا العسف الديني الملايين من الأبرياء على امتداد تاريخ البطش المخيف حفاظا على سلطة رجل الدين أو ما يسميهم خالد الذكر الدكتور علي الوردي "فقهاء الظلام" وسلطة الحكم، والطرفان في قارب واحد ولهدف واحد ولبسط نفوذ واحد، بتخريجات "دينية" ولا علاقة للدين بها، ولكن اختلاط الديني بالسياسي، كانا عنصران سببا كل تلك الكوارث، حتى تحرك المفكرون ورجال الدين المتنورون الذين وجدوا وقتها أن الصمت إزاء هذا البطش الخطير سيقود لفناء الجميع، بعد ان اصبح البابا هو الحاكم بأمر الله، والكنيسة الكاثوليكية هي من تشرع القوانين باسم الإله، وشن البابوات حملات تنكيل كبيرة ضد كل من يتبنى حركة الإصلاح وكان في مقدمتهم جان ويكلف، وجان هس، بفضح رجال الكنيسة وممارساتهم التي تتنافى ومبادئ الدين المسيحي الحقيقية واتهامهم بالبذخ وبممارسات فاسدة، مما أدى إلى اعدام الأخير بتهمة الهرطقة، شعورا بالخطر الذي قد يحرك الناس ضد الكنيسة وبالتالي إيقاف الامتيازات وحالات الترف اللتين كانتا من سمات التصرف الأهوج لرجالات الدين.
وكانت لحركة الإصلاح الديني التي قادها المتنورون فعلها القاصم لظهور دعاة الدين والتفرد بسلطة القرار الديني، والبقية يعرفها القارئ وما وصلت له أمم العالم المتحضر من قفزات نوعية وباهرة في البناء وحركة الدفاع عن حقوق الانسان والحقوق المدنية وبناء الديمقراطية، وبقي الدين في حجمه المتمثل بممارسة الطقوس الدينية دون التدخل بالسلطة وقوانينها الوضعية التي وضعت الجميع ودون استثناء على مسافة واحدة ودونما تمييز بين هذه الشريحة الاجتماعية وتلك.
فما أشبه الأمس بيوم العراق وما يعيشه من تخبط وفوضى وباسم الدين أيها المواطن العراقي المغدور؟
هذا هو الهدف الأساسي للسعي لبناء دولة مدنية في بلدنا وما تتناه القوى المدنية والعلمانية والقوى الدينية المعتدلة التي وجدت أن لا خروج من محنة العراق إلا بتطبيق شعار الدين لله والوطن للجميع، دون المساس بالحريات المدنية وحرية المعتقد وممارسات الطقوس الدينية إذا كانت لا تقترب من هيبة الدولة والتجاوز على القوانين والتشريعات العامة ومبادئ الدستور.
إن من يتنكر لهذه المبادئ يعبر عن نواياه بشكل فاضح ومكشوف، وما نقرأه ونطلع عليه ويظهر علينا بين الفينة والأخرى رجالات دين متزمتين مدعين وحاثين البسطاء من الناس بالوقوف بوجه المد العلماني والمدني اللذين بدءا يخيفهما بعد أن لاحظوا توجه العراقيين وبأعداد غفيرة بتبني هذا الاتجاه كطريق خلاص من سطوة الأحزاب الدين التي ما تركت شيئا إلا وتبنته لتشن حملات تشويه ضد العلمانيين والشيوعيين وأصحاب التيار المدني، دون أن تترك حتى المتدينين المتنورين الذي غلّبوا مصلحة الوطن عن المصالح الشخصية خلافا لبعض الأحزاب الدينية بتكريسها للاتجاهات الطائفية وما سببته من أضرار جسيمة في بنية المجتمع العراقي غير خافية اليوم عن القاصي والداني، سوى أولئك الذين ظلوا يطمرون رؤوسهم تحت التراب تمثلا بالنعامات وطبعا لأهداف باتت معلومة حتى للأطفال الرضع، بدعوى الدفاع عن المقدسات وتخويف الناس من المد المدني الذي قد يفقدهم ممارساتهم الدينية، وما هي إلا ادعاءات باطلة ومجافية للواقع، لأن التيار العلماني من أشد المدافعين عن الشعائر الدينية وطقوسها التي يحترمها الجميع، ونريد من هؤلاء المتشدقين بالأباطيل أن يعرضوا لنا ولو وثيقة واحدة صادرة من التيار العلماني أو المدني أو حتى الحزب الشيوعي العراقي تشير بمعارضة هذه الممارسات التي ينبغي أن يحترمها الجميع، ولا ضير أن نذكر بأن الحزب الشيوعي العراقي لديه موكب حسيني يقام في كل طقس ديني لتقديم الطعام والشراب للزائرين تيمنا واحياء لذكرى الطف واستشهاد الامام الحسين (ع)، أم أن ذوي الألسن الطويلة والعقول الصغيرة يختارون ما يشاءون ويشوهون من يشاءون.
يتضح يوما بعد آخر أن الحل الوحيد لمعضلة العراق اليوم وما يعانيه من نظام محاصصة مقيت ومدمر وما سببته الأحزاب الدينية من كوارث وإشاعة الفساد وهدر المال العام وتوزيع المناصب والامتيازات لمنتسبيهم ومن يقترب منهم وأبواقهم وتخريب حتى تاريخ العراق وكأنهم مخلوقات جاءت لتدمير العراق وتتمة ما بدأه الطاغية صدام من مشروع فناء ومحو لكل شيء في هذا البلد الجريح، لكل هذه الأسباب التي يعني استمرارها الدخول في مرحلة الفناء الحقيقي، أن يبادر الخيّرون جميعا وبكل المشارب والأطياف للسعي لتصحيح المسار الخاطئ ولجم كل المتخرصين واسكاتهم وتسويف تقولاتهم لتشويه أمل العراق في الحرية والانعتاق والبناء الحقيقي لدعم القوى الحية للتيار المدني والعلمانيين وكل المتدينيين المتنورين، ويقينا ستجند هذه المخلوقات وتحديدا في هذه الأيام التي تقترب من وقت الانتخابات كل إمكاناتها المشبوهة واسلحتها الحاقدة لتشويه سمعة الوطنيين الأحرار الرافضين لنظام المحاصصة والطائفية وسارقي المال العام ومفسدي عقول الشباب بادعاءات زائفة وكيدية.
هذا أذا أراد العراقيون وبسعي حثيث لكنس هذه الحالات الطارئة التي باتت تتحكم في مفاصل الدولة تاركين المسحوقين والفقراء والأحرار وكل شرفاء العراق في خانة المحاصرة والاقصاء، ليتفرغوا هم لمشاريعهم التي لم نر منها غير استشراء الفساد وتدمير بلدكم أيها العراقيون الأباة.
وخير الكلام خواتمه لأحيل القارئ الكريم للمقابلة التلفزيونية في برنامج في متناول اليد على فضائية الشرقية نيوز لتعزيز ما ذهبنا إليه لما يتضمنه من موقف رسمي مسؤول نعتد به جميعا. وهذا هو الرابط:
https://youtu.be/k9yiOhmfPiI