المنبرالحر

الأنظمة الدكتاتورية العربية وقمع التغريد / رضي السماك

مضى حين من الدهر ظلت خلاله الأنظمة الشمولية العربية مهووسةً بملاحقة الرأي والفكر الآخر المخالف والفاضح لسياساتها الاستبداية مستهدفةً الحيلولة دون وصوله لشعوبها إما بمصادرة الكتب والمجلات والصحف التي تطبع في الخارج ومنع دخولها بلدانها وإما بالتشويش على الاذاعات الأجنبية التي تبث أنباء وبرامج لا تروق لها ثم في مرحلة لاحقة شملت اجراءاتها المحطات التلفزيونية فالقنوات الفضائية .
ورغم ان العالم المتحضّر بات يقطف منذ نحو ربع قرن ثمار ثورة تكنولوجية كونية في آليات ووسائل التواصل والاتصال الإعلامي والمعرفي ، حتى بات يعيش في قرية صغيرة يجري فيها بث وتداول ما يدور في كل بقعة من المعمورة في سرعة قياسية مُذهلة لا تتجاوز بضع ثوان ما يصعب معه التوهم بإمكانية اصطياد المغردين البشر أو خنق تغريداتهم كمثل اصطياد الطيور المغردة فإن ما يثير الإشفاق والسخرية والتقزز معاً تجاه حكّام هذه الأنظمة أنه مازالت بالفعل تستبد بهم عقلية هذه الإمكانية وجدواها .
وهكذا فقد أضحى " تويتر " اليوم يلعب دوراً سياسياً في منتهى الأهمية والخطورة كمنبر إعلامي عالمي دولي حر يعري تفسخ أخلاق الأنظمة الدكتاتورية وفسادها وأكاذيب دعايتها ، ولعل مكمن الخطورة التي غدا يشكلها تويتر على هذه الانظمة إنما يتمثل في عدم وجود رقيب للسلطة على نص تغريدة المغرّد المختصر جداً في كلمات مكثفة تُطلق في ثوان معدودة لتصل الى مختلف أرجاء المعمورة أينما تُفهم لغة النص بما يُسهل قراءته -لبساطته وقصره - في أوساط أوسع شرائح من الناس ليس في البلد الذي انطلقت منه التغريدة فحسب بل وفي العالم برمته على اختلاف مستوياتهم الثقافية حيث يجتذبها النص و تُقبل على قراءته في لمحة خاطفة وبسرعة قياسية أشبه بسرعة الضوء . وبذا يكاد يكون "تويتر " المتنفس الوحيد للمغردين المُكممة أفواههم من قِبل السلطة العربية الدكتاتورية وعلى الأخص في الخليج والتي مازالت تعيش في أوهام فاعلية الستار الحديدي الحاجب عما يدور خلفه من انتهاكات وجرائم بحق شعوبها ، وحيث طفقت تتصدى للمغردين بكل ما اُوتيت من قوة وبطش ما أن تجس أنفاس تغريداتهم وتحصيها حتى ولو كانت مجرد تغريدات رأي عادية مخالفة لسياسات حكوماتهم في هذا الموقف أو ذاك فما بالك لو كانت تغريدات منددة بمظاهرالقمع والتمييز وانتهاك حقوق الإنسان أومُطالبة بالديمقراطية والإصلاحات السياسية الجذرية . وقد وجدنا كيف جن جنون هذه الأنظمة العربية من التغريدات المعارضة لسياساتها وممارساتها القمعية بوجه خاص إثر انطلاقة هبات وثورات الربيع العربي العام 2011 ، ففي مصر - على سبيل المثال لا الحصر - ما أن اندلعت الثورة في يناير / كانون الثاني حتى بادر نظام مبارك على الفور إلى وقف خدمة الانترنيت خلال الأيام الأولى من الثورة ، وما زالت الانظمة منذاك إلى يومنا هذا لا تتورع عن الزج بمئات أو آلاف الرموز السياسية والشباب المغردين في غياهب السجون وإخضاعهم للتعذيب والحكم عليهم بالسجن لفترات طويلة إما بتهمة تلك التغريدات نفسها تحت ذريعة الافتئات على الدولة وترويج الأكاذيب ، أو من خلال إضافة تُهم اُخرى مُعلّبة جاهزة ، كالتخطيط إلى قلب أنظمة الحُكم وتلقي دعم من جهات خارجية معادية للدولة ، إلى آخره من تلك الإسطوانة أو المعزوفة الرتيبة المتقادمة التي أكل عليها الدهر وشرب ، بل لا تتوانى عن تلفيق للمغرّد تهم مختلقة لا أساس لها من الصحة للإنتقام من تغريداته إذا ما أستعصى عليها إيجاد تبرير لسجنه بسببها أمام الرأي العام الدولي .
وعلى ضوء هذه المحنة المريرة التي عانى منها آلاف المغردين العرب أيما معاناة فقد فإن هذا المنبر الإعلامي العالمي الحر يكاد يكون اليوم عديم الجدوى في تلك الدول الشمولية العربية بعد أن جعلت منه خطراً داهماً على كل من تسوٰل له نفسه "التغريد " بكلمات تنتقدها وجعلت من مصير من سبقوه عبرةً لمن لا يعتبر ، هذا في الوقت الذي أضحى فيه هذا المنبر الاليكتروني العالمي بمثابة حكر على حكومات تلك الدول الخليجية ووزرائها وكتّابها يصولون ويجولون فيه بتغريداتهم كما يحلو لهم لتخوين قوى المعارضة ، واطلاق أقذع الشتائم والسباب الموجهة إليها ، وبث الحُقد والكراهية والنعرات الطائفية بين مكونات شعوبهم التي لطالما ألصقوها زوراً وبُهتاناً بتغريدات رموز المعارضة ، يحدث ذلك كله دون حسيب أو رقيب قضائي أو برلماني على الصعيد المحلي ، ودون أي تشريعات دولية مانعة جامعة تنظّم وتكفل هذا الحق الإنساني في التعبير عن الرأي الحر من على منصة اليكترونية دولية .
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا : هل يحق لقلة من دول العالم أن تصادر حق مواطنينها في استخدام منبر اليكتروني دولي عام هو ثمرة إنجاز حضاري ثقافي عالمي ما كان في الأصل ليتحقق لولا نشوء مخترعيه في بيئة علمية ديمقراطية صحية تطلق حرية التعبير وحرية البحث العلمي والحصول على المعلومات ؟ على أن الدولة الشمولية العربية لم تكتفِ بذلك بل سبق أن أعطت لنفسها الحق أيضاً في التطاول على أي موقع اليكتروني خارجي بحظره برمته ، سواء أكان إعلامياً أو ثقافياً أو حتى تاريخياً حيثما وجدته لا يتماشى مع هواها السياسي الاستبدادي حارمةً بذلك مواطنيها من حق الإطلاع والاستفادة على الأقل من مواده الاخرى التي لا تمس سياساتها .
وهكذا فمنذ عقد ونيف على ذيوع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي في العالم ، والذي يعود فضل ابتكارها للولايات المتحدة ، ظلت هذه الوسائل عرضةً لعبث الرقابة البوليسية من قِبل الدول الشمولية العربية والخليجية منها بوجه خاص بهدف الحيلولة دون استفادة مواطنيها منها استفادةً كاملة ، كما ظل عبثها الرقابي المستبد المتخلف بمنأى عن أي ضغوط دولية تضع حداً له ،فلا أجراءات أو مواقف حازمة من قِبل الدول الديمقراطية الغربية المتشدقة بنشر حقوق الإنسان في العالم ، وعلى رأسها الولايات المتحدة البلد الذي ظهرت منه تلك الاختراعات وشركاتها ، ولاضغوط كافية من قِبل مجلس حقوق الإنسان بالامم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية .
على أنه إذا كانت الشركات الأميركية الأربع : فيسبوك ومايكروسوفت وتويتر ويوتيوب قد أطلقت في أواخر يونيو / حزيران الماضي بمدينة سان فرانسيسكو منتدى لتدارس سُبل التصدي للجماعات الارهابية لمنع توظيفها وسائل التواصل الاجتماعي ، ثمرة الحضارة الديمقراطية الغربية ، لنشر فكرها الارهابي المتحجر المتخلف وخطط عملياتها الارهابية فقد كان الأجدر بالولايات المتحدة - كدولة عظمى تضع نفسها الراعية الأولى لحقوق الإنسان في العالم - أن تجبر شركاتها الأربع الآنفة التي تكاد تحتكر صناعة وسائل التواصل الاجتماعي بأن تدرج ضمن هذه المهام أيضاً وضع ضوابط قانونية حازمة وتقنية آلية مُحكمة صارمة تحول دون حرمان شعوب الأنظمة الشمولية من هذا المنجز الحضاري الإعلامي العالمي وتمنع من أن تعطي لنفسها الحق غير المشروع بتطاولها عليه ومصادرة حق مواطنيها ونشطائها السياسيين والحقوقيين في الاستفادة منه لاسيما وان هذه الدول الشمولية جميعها حليفة لأميركا نفسها !