المنبرالحر

لا بديل عن الحل الديمقراطي للمسألة القومية / محمد النهر

على اختلاف الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة في العراق كانت اللغة والأفكار والسياسة الشوفينية المقيتة هي السائدة خاصة في زمن المدعين بالقومية العربية من البعثيين وشركائهم الذين وقفوا بالحديد والنار ضد كل من طالب بحقوقه القومية من القوميات الأخرى في العراق وخاصة الشعب الكردي ، مما أنعش أفكار التعصب القومي لدى القوميات الأخرى، وقد جرى تغذية التطرف القومي والمواقف الشوفينية والتعصب القومي بشتى الوسائل لتحقيق مصالح سياسية تخدم مختلف الجهات المتصارعة. ولكن الميدان والساحة السياسية لم تكن حكرا لهم فقط . بل كان هناك صوت التآخي القومي والتضامن الأممي والمطالبة بمنح الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي وباقي القوميات ، والتي رفعها وناضل من أجلها الحزب الشيوعي العراقي والقوى اليسارية والديمقراطية طيلة عقود وترافق ذلك مع النضال من أجل الديمقراطية للعراق ، فلا حقوق قومية من دون حاكم ديمقراطي حقيقي في العراق . لقد ساهم في هذا النضال المشرف عشرات الألوف من المناضلين الذين دفعوا ثمنا غاليا لذلك من سجون وتشرد وإعدامات .
ترشحنا مجموعة من الشباب إلى الحزب الشيوعي بعد ثورة تموز 1958 مباشرة وكانت أعمارنا لاتتجاوز الثامنة عشر ، وفي أحد الإجتماعات في نفس العام وكان مخصصا لدراسة تقرير اللجنة المركزية عن الوضع في ذلك الوقت وحضر الإجتماع رفيق مشرف من لجنة المدينة وهو الشيوعي المخضرم إسماعيل حمه ( أبو فهد ) ، وقد استفسر جميع الحاضرين عن معنى كلمة كردستان الواردة في التقرير ، حيث لم نسمع بها من قبل ، فأجاب المشرف بأنها المنطقة الكردية في العراق ، وتحدث عن حقوق القوميات ألأخرى في العراق وقد عزز هذه المعرفة لدينا ماكان ينشر في صحف ومجلات الحزب الشيوعي والقوى التقدمية ، وكذلك ما نزل للأسواق من كميات كبيرة من الكتب الماركسية والتقدمية ، ومنها موقف الماركسية من حقوق القوميات وخاصة مواقف لينين وكيفية حل المسألة القومية في الإتحاد السوفيتي المتعدد القوميات . من هذا التاريخ خضنا صراع فكري ودعائي كبير لتوعية الناس بالمواقف الأممية والتآخي القومي وضد الطروحات العنصرية لدى البعثيين ومن على شاكلتهم . وبدأت ثورة تموز بالتعثر والتراجع وفي كردستان بدأت الحركة القومية الكردية بزعامة البارزاني الأب يحمل السلاح ضد السلطة عام 1961 وقد ساندها في ذلك ومن منطلقات مختلفة الإقطاعيين والمعادين لثورة تموز ، سارع الحزب الشيوعي إلى إتخاذ مواقف لحقن الدماء وصيانة الجمهورية وتطويرها ياعتماد الديمقراطية السياسية والإجتماعية ومنح الحقوق القومية للشعب الكردي وباقي القوميات وترسيخ الأخوة العربية الكردية والتضامن الأممي ، وقد تجلى كل ذلك بما طرحه الحزب من شعارات مثل ( الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان ) و ( السلم في كردستان ) . ومن أجل أن تكون الحملة السياسية والدعائية بأوسع شكل شكلت منظمة الحزب الشيوعي في الصويرة فرق من أجل كتابة هذه الشعارات على الجدران ، وبما أنه كانت هناك حملة ضد الحزب الشيوعي من مختلف أجهزة السلطة مدعومة بتشجيع وتآمر القوى المعادية للجمهورية تقرر أن تكون كتابة الشعارات ليلا . كنا فرقة أنا وأخي أحمد النهر والراحل فاضل علي الحسون ، وكنت أكتب الشعارات والآخران يراقبان طرفي الشارع ، وفجأة اقتحم الشارع أحد الأشخاص راكبا دراجة ( بايسكل ) ووقف بجواري ، وهذه مشكلة كبيرة لأننا معروفين في المدينة ، فما أن قرأ هذا الشخص الشعارات إلا وخلع لثامه ( الشماغ ) وكانت له صلعة كبيرة فطلب مازحا أن أكتب واحدا من الشعارات على رأسه بعدها تعرفت عليه إنه القصاب شمخي أكبر قصاب في المدينة . استغلت القوى المعادية وأجهزة الأمن ذلك لشن حملة كبيرة من الإعتقالات ضدنا وبعد اسبوعين من الإعتقال اطلق سراحنا بعد رفض حاكم التحقيق ( عزيز العادل ) تمديد توقيفنا لعدم ثبوت الأدلة ، برغم ضغوطات الأمن والقوى المعادية لإحالتنا إلى المجلس العرفي العسكري .
واستمرت هذه المسيرة بمواقف سياسية متطورة للحزب الشيوعي من القضية الكردية ، من مطاردات وتوقيف وسجن من قبل السلطات المختلفة.
وعند إعلان اتفاق آذار 1970 بين الحكومة والحركة القومية الكردية ، طور الحزب شعار الحكم الذاتي إلى شعار ( الحكم الذاتي الحقيقي للشعب الكردي ) والحقوق الثقافية والإدارية للقوميات الأخرى . وقتها تحشد أنصار البعث وكذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد للتظاهر انطلاقا من ساحة الميدان ، وقرر الحزب الخروج بمظاهرة من نفس المنطقة تأييدا لبيان آذار وتطويرا له ، كان من جملة مقدمة التظاهرة الراحل زكي خيري وآخرين وكنت معهم باعتباري سكرتير اتحاد الطلبة العام في ذلك الوقت ، ولم يتحمل حزب البعث ذلك وجرى تفريق تحشدنا بوحشية من قبل عناصر البعث ورجال الأمن قبل أن تنطلق المسيرة .
استغل البعث تحالفه مع الحركة القومية الكردية ليوجه ضربة قوية إلى الحزب الشيوعي ، ولم يمض وقت طويل حتى اشتعلت الحرب من جديد بين حكم البعث والحركة القومية الكردية عام 1975 واستطاع نظام البعث بالإتفاق مع شاه إيران وتنازله عن شط العرب وبعض المناطق الحدودية إلى إيران ، أن يوجه ضربة قوية للحركة القومية الكردية مما أدى إلى نهاية الحركة المسلحة في كردستان في ذلك الوقت . وعندما شن الحزب الشيوعي حرب الأنصار في كردستان العراق نهاية السبعينات احتضنت مختلف المناطق الكردستانية أنصار الحزب الشيوعي وقدمت لهم يد المساعدة وقاسمتهم لقمة عيشهم ، وكانت رفيقات الحزب النصيرات موضع ترحاب واحتضان خاص من قبل المرأة الكردستانية . ولم نسمع نحن الرفاق العرب أو باقي القوميات طيلة سنين تواجدنا في كردستان شئ يجرح المشاعر من أبناء الشعب الكردي إلا ما ندر . ولغاية الآن عندما يزور الأنصار العرب المناطق الكردية فهم موضع ترحاب وتقدير من أبناء هذه المناطق الذين عايشوهم وقتها ، كما إن العديد من مقابر شهداء أنصار الحزب الشيوعي المنتشرة في المدن والريف الكردستاني لازالت شاهدا على هذا التاريخ المجيد .
وبعد سقوط النظام واعتماد النظام الديمقراطي ، استبشر أبناء الشعب العراقي من مختلف القوميات بحل جميع المشاكل التي تواجه البلاد ومنها القضية القومية . ولكن مع الأسف الشديد ومع اقتصار النظام الديمقراطي بالإنتخابات فقط والإعتماد على المحاصصة والمكونات ، والإبتعاد عن الدستور وسعي جميع القوى السياسية إلى الإتفافيات التي تؤمن مصالحها وتفشي الفساد والسعي لحرمان القوى الديمقراطية والمدنية من فرص المساهمة في إدارة البلاد ، كل ذلك وغيره أدى إلى الإبتعاد عن الطريق الديمقراطي الحقيقي . ولهذا نشاهد اليوم هذا التصعيد الخطير والذي لا تحده حدود ولا يضبطه ضابط في التصريحات والمواقف التي تغذي الشوفينية والتعصب القومي من كل الأطراف المتنفذة .
ومن مسيرة وتجارب شعبنا ، إذا أردنا عراقا متقدما وحق تقرير المصير للشعب الكردي وحقوق القوميات الأخرى الإدارية والثقافية فلا بديل عن الديمقراطية السياسية والإجتماعية