المنبرالحر

محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز.. ج2 / لقاء وتحرير فرات المحسن

صباح اليوم التالي جئت مبكرا إلى المعهد فوجدت أمرا تحريريا قد صدر بتعييني بصفة باحث علمي أقدم في معهد الاستشراق. عندها فسرت هذه العجالة في تعيني كباحث علمي في المعهد بأنها جاءت وفق ما يظهر من خصومة لغفوروف مع السيد بريماكوف وجماعته وبالذات بعض أقطاب معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية وأيضا مجموعة العلاقات الدولية في اللجنة المركزية بقيادة بناماريوف. فالسيد غفوروف أراد أن أكون أداة لتصعيد التنافس والتناحر من خلال عرض ما يفند أو يقف بوجه أطروحات بريماكوف عن الواقع السياسي وتطوراته في مصر، فالسيد غفوروف لم يكن ليعرف الأشياء الكثيرة عن حياتي وسيرتي الذاتية، ولكنه وجد نفسه يقف بجانبي بعد أن عرف موقف بريماكوف المتشنج والمعاند ومحاولاته العديدة لمنع مناقشة أطروحتي التي تفند العديد من آراء بريماكوف حول مصر.
في اليوم الأول من مباشرتي الدوام في المعهد أطلعني السيد غفوروف على طبيعة عملي، ووضع لي قواعد عمل للسير وفقها، قائلا بأن لا علاقة لي بأي قسم من أقسام المعهد وإنما أرتبط به مباشرة دون سواه. ورغم وجود القسم العربي في المعهد والذي يديره السيد ليبيدوف فأن ليس لي علاقة بذلك القسم، ولكن يمكنني أن أتصل بالسيد ليبيدوف عند الحاجة أو حين يطلب هو مقابلتي. ولن أكون مقيدا بنظام المعهد الذي يتطلب حضور الباحثين وأغلب العاملين في أقسامه مرتين في الأسبوع ، أما أنا فكان علي الحضور يوميا كمساعد للسيد غفوروف أو متى أراد مني الحضور.
خلال شهر من عملي في المعهد تأكد لي بشكل ناجز وجود خلافات عميقة وصراعات سياسية بين تلك المجاميع في مؤسسات الدولة وبالذات البحثية منها أو داخل أوساط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ولكن جميع تلك الخلافات تختفي تحت سقف الاجتماعات المشتركة ويقدم للعالم بعد ذلك خطاب أيدلوجي موحد يعبر عن كتلة حزبية متراصة.
بعد مضي فترة سلمني غفوروف ملف عن أفغانستان. لم تكن عندي معلومات كثيرة عن ذلك البلد وكان حالي حال من يتابع الأخبار من خلال وسائل الإعلام. كان الملف يحتوي على تقارير الاستخبارات السوفيتية وكذلك تقارير السفارة السوفيتية ومقالات صحف والموقف الأمريكي ومثله البريطاني. كان الجيش السوفيتي وقتذاك يحتل أفغانستان. سألت غفورف عن المطلوب مني عمله مع هذا الملف إذا كان كل شيء فيه يتحدث بالتفاصيل الدقيقة عن الوضع هناك. فقال غفوروف أنه لا يريد الحديث أو استعراض وجهات النظر أو متابعة الأخبار الموجودة في الملف، وإنما يتطلع أن يحصل على معلومة تؤكد أو تنفي وجود خلاف حول فهم المسألة الأفغانية، وبالذات بيننا وبين الآخرين. وطلب مني أن أكتب رأيي بعد قراءة الملف ثم أجلس مع سعيد كميلوف لترجمته إلى الروسية. توقفت متمعنا بجملة (وجود خلاف بيننا وبين الآخرين) عندها أدركت بأني أصبحت جزء من هذه الكتلة التي يقودها غفوروف.
في الجانب الآخر كان مركز يفغيني بريماكوف وبمرور الوقت يتعزز وبدأت الخصومة بين معهد الاستشراق ومعهد الاقتصاد والعلاقات الدولية تطفو فوق السطح وكانت الأحداث تتسارع في مصر وتتجه نحو الأسوأ. في ذلك الوقت كان غفوروف يطلب مني كتابة تصوراتي عن أحداث مصر ليقوم سعيدوف بترجمتها وترفق مع باقي التقرير العام الذي يعده المعهد ليرسل بعدها إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وكان التقرير يخلو من ذكر اسمي. فجأة وبعد عدة تقارير وفي أحد الأيام طلب غفوروف إدراج أسمي بين أسماء المشاركين في إعداد التقرير، عندها شعرت بحدوث نوع من التغيير في سياق العمل، فسألت عن السبب في هذا فأجابني غفوروف بأن هناك قرار صدر من المكتب السياسي للحزب يؤكد وجوب ذكر جميع من شارك في إعداد التقرير، شعرت وكأن هذا الآمر يعنيني بالذات وليس شخصا أخر، وأنه محاولة من بناماريوف ـ بريماكوف وجماعتهم للتمهيد لمؤامرة تخصني. لم تمض على مشاركتي في إعداد التقارير غير فترة ليست بالطويلة ربما شملت أربعة أو خمسة تقارير فقط، حين أخبرني غفوروف بأن هناك من أتصل به من أللجنة المركزية للحزب وسأله من يكون هذا الدكتور خليل عبد العزيز، فأخبرهم بما يتعلق من معلومة عني مؤكدا كوني شيوعي عراقي سبق وأن حكم عليه بالإعدام في بغداد، كذلك سألوه عن الكيفية التي تم فيها توظيفه للعمل في المعهد. فرد عليهم كونه يمتلك صلاحيات للتعيين وفق خياره، وسألوه إن كان قد حصل على موافقة اللجنة المركزية فأجابهم بأنه غير محتاج لهذا وصلاحياته يستمدها من المكتب السياسي للحزب.
ضمن خطط المنافسة والصراع الذي كنت أنا محوره، كانت تثار بين فترة وأخرى وبإلحاح مسألة وجودي كأجنبي في المعهد، وكان غفوروف يواجهها بعناد وردع قوي. في أحد الأيام أتصل بي رئيس دائرة الهجرة لعموم الاتحاد السوفيتي وطلب حضوري إلى دائرته مع جلب جميع الأوراق الثبوتية الخاصة بإقامتي في الاتحاد السوفيتي لغرض إتمام معاملة منحي الجنسية السوفيتية، في الوقت الذي شعرت بفرح غامر، توجست خيفة من هذا الآمر، وتساءلت لمَّ يتصل مدير دائرة الهجرة والإقامة مباشرة بي دون سابق معرفة أو مقدمات للطلب، لذا ذهبت إلى السيد غفوروف وأعلمته بالخبر وأنا منشرح الصدر مستعد لنيل الجنسية السوفيتية التي يتمناها الكثيرون. وقد اعتقدت بأن الجنسية السوفيتية سوف تساعدني وتغير من نمط علاقاتي في المعهد ومع مؤسسات الدولة الأخرى، وتقف أيضا بوجه محاولات إقصائي وتحجيمي. وعند مقابلتي لغفوروف شرحت له ما حصل، ففاجأني بالقول عليك أن ترفض هذا العرض، فهم يسعون لتجميد عملك في المعهد أو أي مؤسسة أخرى. فتساءلت كيف ؟
أجابني بأن الغاية من منحي الجنسية هو تجميد عملك كليا، فعندما تصبح مواطنا سوفيتيا سوف تفرض عليك قواعد وقوانين منع التعامل مع غير المواطنين السوفييت، حيث يمنع عليك مقابلة أي مسؤول أجنبي دون الحصول على موافقة أمن الدائرة التي تعمل بها، وهذا سوف يعيق عملنا سوية ويهيأ الظرف للإطاحة بك كباحث علمي في المعهد، وإن خرقت التعليمات فسوف تواجه بما لا يحمد عقباه وعلى ابسط الأمور، وسوف تكون عملية طردك من وظيفتك سهلة جدا على صديقك اللدود بريماكوف.
منذ تلك الحادثة بدأت تظهر بحدة الخلافات بين المعهدين وكنت شخصيا واحدة من تلك السجالات والمشاكل، وما عاد بريماكوف يخفي محاولاته الحثيثة لإقصائي عن العمل في المعهد، ولكن قوة شخصية وتأثير غفوروف السياسي كان يثلم ويمنع كل تلك المحاولات، ولكن بريماكوف ما كان ليستكين. وفي ذات الوقت وبموازاة أفكار بناماريوف كانت سياسة الاتحاد السوفيتي تتمسك بالنهج الفكري الذي تغذيه هذه المجموعة. وكانت أفكار بناماريوف تتساوق وأفكار بريماكوف وكان كل ذلك يمثل حقيقة النهج السياسي للاتحاد السوفيتي المعتمد في التعامل الدولي.
ورغم صعود نجم بريماكوف وارتفاع وتائر تأثيره في السياسة العامة وعلى مصادر القرار فأنه لم يكن ليتركني وشأني ويشير دائما كوني معارض لسياسة الحزب الشيوعي السوفيتي وبالذات لرؤيته حول الأحداث والقوى السياسية وقياداتها في العالم الثالث، وكنت جزء مهما من خططه للصراع بالذات مع مدير معهد الأستشراق.
كانت نقاشاتي مع بريماكوف تأخذ طابع التشنج فهو دائما ما يحاول استفزازي ويختار المواضيع التي تثيرني وتزعجي، ففي واحدة من تلك المرات طعن أمامي بالحزب الشيوعي العراقي وسألني سؤالا استفزازيا عما فعله الحزب الشيوعي العراقي لوطنه العراق.فأخذت أشرح له مواقف الحزب ونضاله منذ ثلاثينيات القرن العشرين وتقديمه القرابين على مذبح الدفاع عن الحريات المدنية والحياة الحرة الكريمة للشعب ومن أجل وطن حر وشعب سعيد، وقدم حزبنا سكرتيره الأول فهد ثم سكرتيره الآخر سلام عادل وآلاف الشهداء لهذا الهدف السامي، فأجابني بأنه يتفق معي في ما ذهبت أليه، ولكن أجبني ما الذي قدمتموه للناس فأجبته، بأننا حفرنا في ضمائر أبناء الشعب حب الوطن والحرية وحرضناهم للمطالبة بحقوقهم وبناء وطنهم بعيدا عن الاستلاب والخوف والخضوع لسطوة الأجنبي وعملنا على تثقيف الجماهير وتوعيتهم بالحقوق المدنية، فقال وماذا يعني هذا ، فيمكن لأي شخص ومن خلال برنامج إذاعي واحد القيام بكل ما تحدثت عنه، وأني أرى بأنكم وبعد كل هذا المدة الطويلة التي مضت على تأسيس حزبكم، لم تستطيعوا أن تقدموا شيئا لشعبكم، وقد كنتم في فترة ما تؤيدون عبد الكريم قاسم رغم أنه لم يكن ليمنحكم منصبا في سلطته، ثم ختم حديثة بالقول، أنا لا أثق بسياسة أي حزب شيوعي عربي ولا أؤمن بأدوار يعتد بها في بلدانها، وأعتقد بأنها غير قادرة على فعل شيء ما ، أيضا على المرء أن ينظر لتجربة حزب البعث الذي استطاع السيطرة على السلطة في سوريا وكذلك العراق رغم قصر عمره في عالم السياسة بالنسبة لعمر حزبكم، أيضا أنا أنظر بعين الرضا والتقدير للتجربة الناصرية.

صعود نجم بريماكوف
كان أغلب الصحفيين من العاملين في وسائل الإعلام السوفيتية لهم رأي جازم بكون السيد يفغيني بريماكوف يعمل في لجنة أمن الدولة المسماة كي جي بي، وحتى المصريين كانت قناعاتهم تصب في هذا الاتجاه ، ولكنه وعلى المستوى الشخصي، دائما ما كان ينفي هذه العلاقة و يعلن بشكل متكرر بأنه يتحدى أي شخص يستطيع أن يثبت وجود مثل هذه العلاقة أو عمله في ذلك الجهاز. ولكون السيد بريماكوف كان مسرفا في تناول الكحول ويتعاطى الشراب يوميا، لذا في أحدى المرات وتحت سطوة الكحول وأمام جمع من أصدقاءه قال إن ليس لديه علاقة بالكي جي بي فهو يعمل في دائرة أخرى يطلق عليها المنظمة العسكرية المضادة للاستخبارات والجاسوسية. بدوري فقد حصلت على تأكيد لهذه المعلومة من شخصيات ذات نفوذ في السياسة السوفيتية ولهم علاقة شخصية ببريماكوف.
كانت شخصية ومكانة السيد بريماكوف تتعزز مع مرور الوقت بسبب علاقته بعضو المكتب السياسي للحزب السيد بنماريوف لتقارب أفكارهم ورؤيتهم التي تنم عن عداء مستحكم للأحزاب الشيوعية في البلدان النامية ومنها الأحزاب الشيوعية العربية، وتأكيدهم الدائم على عدم قدرة تلك الأحزاب على قيادة مجتمعاتها أو إحداث تغيير في طبيعة الحكم في بلدانها لصالح الطبقات الفقيرة.
تخرج بريماكوف من معهد الدراسات الشرقية وتخصص باللغة العربية، فعمل في القسم العربي من الإذاعة في موسكو، ثم عمل في جريدة البرافدا وأرسل إلى القاهرة كمراسل للجريدة وكان يقوم يوميا بإرسال تقارير إلى موسكو تتحدث عن الوضع في مصر والتطورات اللاحقة لهذا الحراك، ثم بعد قضائه فترة طويلة في القاهرة لعب فيها دورا حيويا في العلاقة بين البلدين وعزز مكانته بين المراسلين الصحفيين القادمين من الاتحاد السوفيتي وبات له مركزا مميزا هناك.تم إرجاعه إلى موسكو ليعاود العمل في أقسام صحيفة البرافدا ولكن بعد فترة قصير عين باحثا في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية، ثم صعد نجمه ليصبح مديرا لمعهد الأستشراق بعد خلو المركز الوظيفي إثر وفاة السيد غفوروف. ودائما ما كانت تثار التساؤلات حول صعوده السريع وتسلقه للمناصب. ولكن مثل هذا الاستغراب والدهشة يبطلان لو عرفنا بوجود لوبي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والمكتب السياسي كان يدعم توجهات وأفكار بريماكوف لا بل يتبنى أطروحاته، وهذا اللوبي هو من يمهد له المهام ويدفع به للصعود في سلم المناصب.ويمكن القول بأن هناك كتلة قوية داخل السلطة والحزب الشيوعي تدير من الداخل وترسم سياسة الدولة السوفيتية وبعدها الدولة الروسية، يمكننا توصيفها بالدولة العميقة.
فحين توفى السيد غفوروف مدير معهد الأستشراق بقي مكانه فارغا، وكان موته خبرا سعيدا لتلك الكتلة وبالذات الموجودة في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية. قدمت أسماء عديدة لتحل محل غفوروف ومنهم بروفيسور من أصل كوري اسمه كيم . كان هذا جديرا باحتلال الموقع ولكن هذا الطرح واجه اعتراضا شديدا من قبل أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وقرروا أن يملأ الموقع الوظيفي بشكل مؤقت لحين تهيئة البديل، ولكن لم تمض غير فترة قصيرة حين عين بريماكوف مديرا لمعهد الاستشراق رغم بعده المهني والعلمي عن طبيعة المعهد ومهامه. ولم يدع بريماكوف الوقت يمضي فسرعان ما عمل على تسريح وإزالة جميع من كانوا على علاقة بغفوروف.
عند فتح أرشيف اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي أمام الباحثين في شهر آب (أغسطس ) من عام 1991 أثار ذلك الكثير من الشهية للإطلاع على خفايا السياسة السوفيتية، وقد صدر عن ذلك كتاب ظهرت فيه مجموعة رسائل لعلماء سوفييت كانت موجهة إلى قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، يطالبون فيها اتخاذ إجراءات عقابية بحق يفغيني بريماكوف الذي كان في ذلك الوقت مديرا لمعهد الاستشراق السوفيتي، وجاء في نص أحد الرسائل ما يلي:
* الشيوعيون في معهد الاستشراق لأكاديمية العلوم السوفيتية يطلبون منكم اتخاذ الإجراءات القاسية بحق الأكاديمي بريماكوف والذي لقبه الحقيقي ( كيرشنبلات)، نظرا لما يقوم به من أعمال تعسفية وغير قانونية كالارتشاء وسوء استخدام مركزه الوظيفي واستغلاله لمصالحه الشخصية والذي دائما ما يفرض أعماله تلك على معهدنا. إن قائد المافيا الصهيونية هذا، دائما ما ينتهز ويسخر موقعة الوظيفي لمنافعه الشخصية، وهو وطوال عام العمل يقضي أوقاته في مهمات أيفاديه خارج الاتحاد السوفيتي، كذلك يجمع الرشوة من زملائه في العمل وبالذات منهم الذين يعملون ويعيشون في الخارج.وقام ببناء قصره الريفي الفخم الواقع في منطقة (ماليازيملي) من تلك الأموال.
يفغيني بريماكوف ـ كيرشنبلات ـ لا يهمه أي شيء فيما يخص موارد الدولة ولذا يبذرها على مصالحه الشخصية الطامعة في الكسب غير المشروع. لقد دمر بريماكوف المعهد بأكمله وقام بتقسيم المهام وكذلك زملاء العمل، على مجموعة من الموالين والمقربين له من اليهود ، أما من هم خارج هذه التقسيمات من العلماء فيعدهم بريماكوف غير مفيدين أو غير مؤهلين. انتهت
كان بريماكوف ذكيا جدا ويعرف جيدا من أين تؤكل الكتف، فهو يتمتع بحدس كبير وبقدرة سياسية واجتماعية فائقة قادرة على التأقلم مع الوضع والتغيرات وحتى في العلاقة بالأشخاص خاصة من الدرجات الحزبية والإدارية العليا. ففي عهد بريجنيف كان السيد بريماكوف ملتصقا بالقيادة ويلبي ويساير مختلف السياسات السوفيتية، ويبدو وكأنه داخل طاقم السلطة وقريب من قرارها،ثم كان من حاشية غرباشوف حين وصل الأخير إلى سدة الحكم وساعده على ذلك السيد ياكفليف عضو المكتب السياسي للحزب والذي سبق وأن عمل سفيرا لموسكو في كندا، وخلال تلك الفترة صعد نجم بريماكوف ليصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي. وحين أطيح بغرباشوف وأعتلى سدة الحكم الرئيس يلتسين عين بريماكوف مديرا للمخابرات العامة ثم أصبح وزيرا للخارجية وارتفع نجمه ليصبح بعدها رئيسا للوزراء رغم وجود رأي عام ضده في عموم الاتحاد السوفيتي ثم في روسيا .
في فترة من الفترات وحين كان يعمل بريماكوف في الصحافة كلفته القيادة السوفيتية الذهاب إلى العراق لمحاولة نزع فتيل الأزمة بين الحكومة العراقية والحركة الكردية بقيادة الملا مصطفى البرزاني، وكان هاجس القيادة السوفيتية هذا ينظر بعين الريبة إلى علاقة الأكراد بسلطة شاه إيران والخوف من إن يستغل الشاه تلك العلاقة لمصالحه في المنطقة. لذا كلف بريماكوف للذهاب إلى هناك ومحاولة جسر الخلاف بين الحكومة العراقية والحركة الكردية. كانت اتصالات الاتحاد السوفيتي بأكراد العراق تتخذ طريق طهران للوصول إلى كردستان العراقية، ولكن هذه المرة أصر بريماكوف الذهاب مباشرة إلى بغداد ومن ثم الانتقال منها إلى كردستان، معلل السبب في طلبه هذا، بعلاقته الطيبة بصدام حسين وقدرته التحاور مع القائد العراقي بشكل صريح ومنفتح.
مع الملا مصطفى البرزاني
دخل بريماكوف العراق بصفة مراسل لوكالة أنباء تاس السوفيتية وتحدث مع القيادة العراقية وبالذات صدام حسين وطلب منهم تسهيل مهمته وتوفير وسيلة لتنقلاته بين الطرفين، وفر له الجانب العراقي ما أراد من تسهيلات فراح يتنقل بثقة بين طرفي النزاع . ورغم أنه جاء بتكليف من قادة الاتحاد السوفيتي وبمهمة محددة فأنه دائما ما كان يعلن بأن مهمته تتعلق بإجراء تغطية صحفية خاصة للأحداث .
كان بريماكوف يحضر لمقر وكالة تاس في العاصمة العراقية كلما عاد من مهمته في كردستان.وكان هناك في مقر تاس رجلا عراقيا يعمل مترجم أسمه فاضل فرج وهو خريج الاتحاد السوفيتي ومن الشخصيات الديمقراطية التقدمية. كانت طلبات بريماكوف من السيد فاضل فرج تتعلق بما يرد من أخبار يومية في الصحافة العراقية و يتحدث أيضا حول مهمته المتعلقة بالصلح بين طرفي النزاع، ولقد أخبر بريماكوف السيد فاضل فرج بأنه منح الضوء الأخضر من صدام حسين وصلاحيات للتفاوض مع الملا مصطفى لغرض إنهاء الاقتتال ووضع حد للمشاكل والعلاقات المتشنجة. فقدم السيد فاضل فرج نصيحة لبريماكوف قائلا له بأن عليه أن لا يثق بصدام حسين وبسياسات حزب البعث، فأجابه بريماكوف بأن هذا الكلام كلام شيوعي عراقي، وأنه يثق ثقة كبيرة بصدام وسوف تكون هناك في القريب العاجل نتائج ايجابية.
كان بريماكوف وفي كل مرة يعود بها إلى بغداد يذهب إلى الغرفة التي يعمل فيها السيد فاضل فرج في وكالة تاس ويحدثه عن وقائع لقاءاته مع قادة الأكراد وأين وصلت المباحثات فلا يجد من السيد فاضل غير الموقف السلبي والمضاد لحزب البعث وصدام حسين، وحين وصل الاتفاق إلى مراحله النهائية قال بريماكوف، أريد أن أحمل لك البشرى بأن الأيام القليلة القادمة سوف تفرج عن أتفاق يعقد بين الطرفين يوقف القتال ويمنح الأكراد حكما ذاتيا، عندها أخبره السيد فاضل فرج بأن حزب البعث وصدام من المستحيل أن يكونوا صادقين في نواياهم وسوف لن يطول الوقت ليتخلوا عن أي أتفاق كان، وأنت ولكونك توفيقي، لا تشاهد ما خلف اللوحة، وعليك أن تفهم بأن هؤلاء فاشيون ولن يتخلوا عن فاشيتهم تحت أي ظرف. عندها أبدى بريماكوف انزعاجه وأكد أن الأطراف جميعها اتفقت وسوف توقع الاتفاق، وأنت حالك حال جميع الشيوعيين العراقيين. فلم يتردد السيد فاضل فرج بوصف بريماكوف بالتوفيقي مرة أخرى.
بعد ذلك أصبح مدير وكالة تاس السيد ماتيوشيك يعامل السيد فاضل فرج معاملة غير جيدة وفي نهاية المطاف أخبره بأنهم استغنوا عنه كمترجم في الوكالة، وحين سأله عن سبب ذلك أخبره المدير بأن بريماكوف قد أتصل به هاتفيا من موسكو وطلب منه طرد السيد فاضل من العمل في وكالة تاس، وبعدها تم تعيين السيد كاميران قره داغي مترجما في وكالة تاس بدلا عن السيد فاضل فرج.