المنبرالحر

قراءة في ثلاثة مواقف عربية مناهضة للتطبيع / رضي السمّاك

ظلت القضية الفلسطينية لعقود طويلة منذ اغتصاب فلسطين 1948 في قلب اهتمامات شعوبنا العربية وحركات تحررها الوطني وجزءاً لا يتجزأ من ترابط مهامها الوطنية الداخلية بها ، ومع تعاظم وتعقد انجاز هذه المهام بدا وكأن المسألة الفلسطينية باتت تحتل مسألة ثانوية غير ذات تأثير مباشر على انجاز المسائل الوطنية ، ولربما توهمت الانظمة العربية وحُلفاؤها الغربيون ، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ، بعدم مبالاة الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية فأخذت بدورها تتمادى في التطبيع مع الدولة الصهيونية ، إلا أنه وخلال إسبوع واحد فقط عبّرت هذه الشعوب في ثلاث مناسبات عن رفضها الحازم لهذا العار التي باتت تلك الانظمة لاتخجل من ممارسته المشينة في وضح النهار
المناسبة الأولى : جاءت في الثامن من تشرين الأول الجاري في المغرب ، عندما جرت احتجاجات شعبية وحزبية ونقابية وبرلمانية على إثر استضافة مجلس البرلماني المغربي وزير الحرب الاسرائيلي الأسبق عمير بيريز ضمن المدعوين للندوة الدولية لمجلس المستشارين والجمعية البرلمانية للبحر المتوسط .
المناسبة الثانية : وقد جرت في 14 من الشهر نفسه بمبادرة من وفود شبابية (معظمها تمثل بلداناً من المشرق العربي ) شاركت في مهرجان الشباب والطلبة العالمي التاسع عشر بمدينة سوتشي الروسية والتي احتجت على مشاركة وفد اسرائيلي صهيوني في مثل هذه الاحتفالية اليسارية العالمية والتي جرى فيها العلم الاسرائيلي وأعلنت انسحابها من حفل الافتتاح .
المناسبة الثالثة : وقد جرت مؤخراً في روسيا أيضاً وتحديداً في مدينة بطرسبورغ يوم 17 من الشهر الجاري خلال مؤتمر الاتحاد البرلماني العالمي وذلك حينما أحتج مرزوق الغانم رئيس برلمان الكويت ورئيس وفدها البرلماني على مشاركة اسرائيل في المؤتمر مُعلناً طرد رئيس وفدها البرلماني ومطالباً إياه بمغادرة قاعة المؤتمر وموجهاً له أقذع التنديدات .
ومما لاشك فيه فإن تلك المواقف العربية الثلاثة المٰشرفة لعلها تشكل دروساً لإسرائيل وحلفائها الغربيين والانظمة العربية المُطبعة مع العدو جديرة بالإتعاظ إن أرادت حقاً الاتعاظ منها دون مكابرة . ففي الموقف الاول الذي جسّده المغرب فلعل المغزى هنا يتمثل في أن هذا البلد العربي البعيد جغرافياً عن بؤرة الصراع مع اسرائيل لم يحُل ذلك البُعد موضوعياً في أي فترة تاريخية من تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي دون وقوفه مع القضية الفلسطينية واعتباره التطبيع مع العدو الاسرائيلي مسألة تمس مشاعره الوطنية والقومية والدينية . وفي الموقف الثاني والذي جاء بمبادرة مشتركة بين الوفدين الشبابيين اللبناني والفلسطيني فإن المغزى الذي عبّر عنه الوفد الاول يكمن في ان لبنان لم تفت في عضد شعبه كل المؤامرات والحروب العدوانية الوحشية التي شنتها إسرائيل عليه على مدى نصف قرن منذ هزيمة يونيو 1967 ، وذلك انتقاماً منه لاستضافته المخيمات والمقاومة الفلسطينية التي انطلقت منها على أراضيه ، أو لقيامه بممارسة حقه المشروع في المقاومة الوطنية لتحرير أراضيه الجنوبية من الاحتلال الاسرائيلي والتي تكللت بالنصر المؤزر عام 2000 ، بل وحتى الاخطاء الكبيرة التي وقعت فيها ممارسات لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة داخل المناطق والقرى الجنوبية لم تؤدِ إلى زعزعة ايمان أهاليها والشعب اللبناني عامةً بما يملي عليه ضميره من واجب لنصرة ودعم قضية شقيقه الشعب الفلسطيني .
وأخيراً فإن الموقف الثالث الذي جسده رئيس البرلمان الكويتي المرزوق فيمكن استخلاص مغزاه الكامن المغزى في أنه رغم عمق الجرح الذي ما فتئ يشعره الشعب الكويتي من موقف القيادة الرسمية الفلسطينية المتخاذل مع الغزو العراقي للكويت في عهد الدكتاتور المقبور صدام حسين عام صيف 1990 إلا ان مراهنة اسرائيل والغرب على ان يفضي ذلك إلى نفض الشعب الكويتي يديه من القضية الفلسطينية وإلى الأبد تحت تأثير تلك الملابسات التاريخية القريبة باءت بالفشل الذريع ، حيث اثبت هذا الشعب بانه لا يقل عن أي شعب عربي آخر في حيوية ضميره الوطني والقومي ازاء مظلومية شقيقه الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته وما يمليه عليه من وجوب نصرته بكُل السُبل الممكنة وان استكمال انجاز مهامه الوطنية ليس بمعزل عن حل القضية الفلسطينية كحال أي شعب عربي آخر . ولعل من الجدير ذكره هنا بأنه سبق أن راهن أيضاً عرابو إستضافة وفد من رجال الأعمال اليهود الاميركيين في كانون الأول الماضي الى البحرين على ما يمر به شعبها من ظروف سياسية قسرية داخلية وتمزقات طارئة في وحدته على خلفية أحداث ربيع 2011 واعتقدوا ان تلك الظروف باتت مُهيئة لهم تماماً لتدشين التطبيع مع العدو الاسرئيلي ، فإذا بهم يتفاجأون بعاصفة احتجاجية شعبية وسياسية عارمة توحدت من خلالها كل اطياف وفئات الشعب البحريني وقواه السياسية ضد زيارة ذلك الوفد لاسيما في ظل ما جرى خلالها من برامج فجور سياسي اُقيمت على شرفه استفزت هذا الشعب .
والحال أن تلك المواقف العربية الثلاثة المُشرفة بمناهضة التطبيع تعكس حقيقة راسخة لا تريد إسرائيل ولا الانظمة العربية ولا وحُلفاؤها الغربيون فهمها ، بل تتعامى عنها وهي أن كراهية شعوبنا العربية لإسرائيل لم تكن أبداً في يوم من الأيام بمثابة نزوة تاريخية طارئة يمكن أن تزول بمرور الزمن ، أو من جراء وقوعها في أسر " حاجز نفسي " نسجته من حولها كما عبّر الرئيس المصري الراحل أنور السادات عشية تمهيده لزيارة إسرائيل في مثل هذا الوقت قبل أربعين عاماً ( نوفمبر 1977 ) ، بل هي ، ولجملة من الأسباب الموضوعية والذاتية ليس هنا موضع بسطها ، باتت متجذرة ومترسخة في وجدان شعوبنا العربية منذ تأسيس اسرائيل بالقوة والبطش العسكري الغاصب قبل نحو سبعة عقود ، ولم يغيّر من هذه الحقيقة كل الكوارث والمصائب والتعقيدات الموضوعية والذاتية التي لحقت بقضية الشعب الفلسطيني ونضالاته أم تلك التي لحقت بقضايا شعوبنا العربية الوطنية بما في ذلك نضالاتها الصعبة الآنية التي باتت أشد تعقيداً من أجل انتزاع حقوقها السياسية الديمقراطية والاجتماعية المغتصبة .
إن الانظمة العربية لتتناسى أو تجهل انها بإمعانها في خطواتها التطبيعية مع العدو الاسرائيلي في سكرة سعيها المحموم لكسب رضا وود حليفها الاميركي وتشكيل جبهة عالمية لمواجهة " العدو الايراني " المشترك لهذه الاطراف كافة وباعتباره الخطر الأكبر على العرب كما تعلن دون مواربة إنما تفاقم من سخط ونقمة شعوبها عليها التي هي أصلاً ترث ميراثاً ثقيلاً من القمع ووأد واجهاض حراكاتها الاصلاحية ما برحت تعاني منه وعلى شتى المستوىات والقضايا الوطنية المتعددة .