المنبرالحر

كاتلونيا ... كوردستان ... اوجالان / د. صادق إطيمش

لا يسع المؤمنون بمبدأ حق الأمم والشعوب بتقرير مصيرها إلا ان يتألموا لما آلت اليه محاولات ممارسة هذا المبدأ في الأسابيع الأخيرة من قِبل الشعبين الكاتلوني في اسبانيا والكوردي في العراق ، وما خلفه فشل هذه المحاولة من تبعات ستنعكس على وضع هذين الشعبين للسنين الطويلة القادمة .
مَن يتفحص فشل هاتين المحاولتين في الوقت الحاضر ، انطلاقاً من الإيمان الكامل بشرعية وصحة المبدأ الذي قامتا عليه ، فسيجد عوامل عدة ساهمت بهذه النتيجة المؤلمة . وتتجزأ هذه العوامل إلى ذاتية مباشرة وموضوعية غير مباشرة لا شأن لنا بها في هذا الطرح الموجز الذي نرغب ان نؤكد فيه على العوامل الذاتية المباشرة وما يمكن استخلاصه من نتائج منها .
قد يتعلق العامل المباشر والذاتي الأول بعدم وجود ساسة اكفاء يملكون من الحنكة السياسية ما يؤهلهم للإلمام بكافة الظروف المحيطة باجراء هذه المحاولة ، ويتخذون ، استناداً إلى ذلك ، الإجراءات الغير متسرعة والمدروسة بشكل علمي جيد لتحقيقها على الوجه الأفضل مما جرت عليه .
وقد يتعلق العامل المباشر والذاتي الثاني بوجود فئات اجتماعية كثيرة لدى الشعبين ممن لم يقتنعوا بعد بحلول الوقت المناسب لتحقيق هذا الأمل الذي يراود الشعبين حقاً منذ ازمنة بعيدة والذي ناضل من اجله هذان الشعبان نضالاً مريراً لعقود طويلة مضت من السنين .وهذا لا يعني طبعاً ان هذه الفئات الإجتماعية لا ترغب بتحقيق هذا الأمل ، بل انها تفرق بين الإيمان بتقرير المصير والوسيلة الناجعة لتحقيق تقرير المصير هذا.
وهنا تبرز لدينا اهمية الحنكة السياسية للقائد السياسي الذي يعي سمات المرحلة التي يمر بها النضال في سبيل ايجاد الصيغة المناسبة والملاءمة لسمة العصر والمؤدية إلى تحقيق المصير الذي لا ينبغي ان يُفهم على انه صيغة واحدة لا بديل لها، والتي يفهمها الكثيرون على انها صيغة الدولة المستقلة فقط دون سواها.
إن المتابع لنضال الشعب الكوردي على كل ارض كوردستان لا يمكنه ان يتجاهل التجربة الغنية التي اكتسبها هذا النضال في شمال كوردستان ، والتي اغنت ، بما طرحته من مفاهيم جديدة في هذا الشأن ، مبدأ حق تقرير المصير بثراء فكري يشكل ركناً اساسياً في نضال الشعوب في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها عالم العولمة اليوم .
فحينما تعرض الشعب الكوردي بعد الحرب العالمية الأولى إلى تقطيع اوصال ارضه بين خليفة الدولة العثمانية المتمثلة بالدولة التركية الكمالية وبين تلك الدول الجديدة التي أنشأتها معاهدة سايكس ـ بيكو تبلور عن ذلك وجود أكبر شعب على وجه الكرة الأرضية لا دولة له . وحينما يعترض القوميون العرب المتطرفون على فرضية وجود الدولة الكوردية التي يبلغ عدد سكانها اكثر من خمسين مليون نسمة ، ويطالبون في نفس الوقت بدولة فلسطينية لا يتجاوز عدد سكانها عدد عُشر سكان الدولة الكوردية فإنهم يوقعون بذلك انفسهم وفكرهم القومي الشوفيني في تناقض صريح وواضح لا يبرره إلا العداء لحرية الأخر والإنتقاص من تطلعاته الوطنية والقومية .
وبالرغم من هذا الحق الأممي للشعب الكوردي، ولكل الشعوب المناضلة في سبيله ، فإن التوجه التقدمي الحديث الذي اطلقه زعيم الشعب الكوردي وقائد ثورته عبد الله اوجالان يسير باتجاه النضال لتحقيق الإدارة الذاتية ضمن المجتمعات التي يعيش معها الشعب الكوردي . وهنا لابد لنا من الإطلاع بتمعن وعمق تفكير على بعض ما كتبه اوجالان بهذا الصدد ، والمستل من كتابه : مانيفستو المجتمع الديمقراطي ، المجلد الأول ، على الصفحات 22ـ23 ، إذ يقول :
" " ولكن من الخطأ الفادح النظر إلى دور الكرد في هذه المرحلة الجديدة من الصراع والفوضى داخل الشرق الأوسط بانه مقتصر على التواطؤ . فالغالبية العظمى من الكرد المتعطشين لفلسفة الحياة الحرة ستبقى في انتظار روادها الأفاضل لتروي ظمأها . وبينما تعتبر هذه الغالبية قابلة للتخلي بسرعة عن قوالب حياة العصور الوسطى المستهلكة التي عفا عليها الزمن ، فهي لن تتشبث كثيراً بقالب الدويلة القومية المعروضة عليها ، والتي لا تسمح بفرصة الحياة الحرة لأي شعب ، في حين تُعتبَر العماد الأمتن للحداثة الراسمالية . وبالمقابل ، فإن شكل الإدارة الكونفدرالية الديمقراطية الأكثر ملاءمة لتحقيق طموحاتهم في الحرية والمساواة يُعَدُ الشكل السياسي الأكثر مناسبة للكرد ، نظراً لخصائصهم ومزاياهم التاريخية والجغرافية ." "
ثم يستطرد اوجالان في كتابه اعلاه واصفاً النمط السياسي الجديد الذي يراه مناسباً لتطلعات الشعب الكوردي فيقول :
" " الكونفدرالية الديمقراطية الشرق اوسطية التي تُعتبَر بدورها الصياغة الأساسية القادرة على إيصال كافة المجتمعات والإثنيات ذات الأصول العربية والإيرانية والتركية والكردية والأرمنية والروسية واليهودية والقوقازية ، وجميع المذاهب والأديان ، وكذلك الجماعات ذات الأصول الأوربية والمفتقرة لحقوق الإنسان والديمقراطية ، إيصالها مجدداً إلى مقدساتها واصطلاحاتها في الحياة الحرة وانجازاتها المادية ، بعد ان كانت معرضة للإبادة والتطهير العرقي ومفتقرة ليوتوبياتها في الحياة الحرة بسبب القمع والإستغلال والإضطهاد في معمعان حروب الدولة القومية النابعة من الحداثة الرأسمالية والمفروضة على موزائيك شعوب الشرق الأوسط . وإذا ما تولدت جمهورية فيدرالية ديمقراطية من احشاء فوضى العراق ، فقد تلعب دوراً ريادياً في تحقيق تطور في هذا الإتجاه ." "
وقد يستفيد من هذا الطرح العلمي الموضوعي ليس الشعب الكوردي على كل ارض كوردستان وحسب ، بل يمكن لشعب كاتلونيا الذي خاض تجربته الإستقلالية الفاشلة في الأيام الماضية ان يجعل من هذا التوجه دليلاً له في نضاله هذا . وهذا بالضبط ما عناه اوجالان حينما ذكر اعلاه " الجماعات ذات الأصول الأوربية " .
فالأمر إذن كما يطرحه المفكر الأممي وقائد الشعب الكوردي عبد الله اوجالان لا يتعلق بأي حال من الأحوال بالتنكر للآخر والإنعزال عنه ، بل بالعكس فإنه يرى في شعوب الشرق الأوسط بمختلف مكوناتها مؤهلة لتبني مشروع الشرق الأوسط الجديد الكونفيدرالي الديمقراطي ، وهذا بالتأكيد على العكس تماماً مما تريده الإحتكارات الإستعمارية بقيادة الإدارة الأمريكية من مشروعها التي اعلنت عنه تحت اسم مشروع الشرق الأوسط الجديد .
وإستناداً إلى هذا الفكر الذي تمثله الحركة الثورية الكوردية وانطلاقاً من إيمانها بالكونفدرالية الديمقراطية التي تسعى قوى الثورة الكوردية إلى تحقيقها في غرب كوردستنان ينبغي على القوى المناهضة لهذا التوجه ان تراجع مواقفها من الثورة الكوردية وتوجهاتها الديمقراطية التي ستصب ليس لصالح تيار الحركة الوطنية الكوردية فحسب ، بل ولصالح جميع التيار الديمقراطي في المنطقة برمتها ، وأن يتوجه هؤلاء إلى الوقوف بوجه قوى الشر التي تريد ان تؤسس لدول إسلامية على مقاساتها الخاصة أو إلى دولة قومية شوفينية عربية كانت او تركية او فارسية ، مثل هذه الدول التي تبتعد افكارها المتخلفة عن مسيرة البشرية في قرنها الحادي والعشرين .
وبقدر ما يتعلق الأمر بوطننا العراق والتجربة التي يمر بها اليوم وما افرزه نضال الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكوردي على وجه الخصوص في كوردستان الجنوبية يشير إلى إمكانية تعميم هذه التجربة وتطويرها واتخاذها كحل لمشكلة من اهم المشاكل التي تواجهها المنطقة والمتعلقة بحرية وكرامة شعب كالشعب الكوردي العريق في القدم والذي تمتد جذوره في اعماق التاريخ الإنساني .
بغض النظر عن إتفاقنا او إختلافنا على طبيعة الإدارة السياسية وكل ما يتعلق بها في كوردستان الجنوبية ، لا يمكن لأي منصف إلا ان يرى تطوراً إيجابياً على حياة الشعب الكوردي بالرغم من ان هذا التطور يظل دون المستوى المطلوب تحقيقه فعلاً ، خاصة في السنين الأخيرة القليلة ، بعد اكثر من عشرين عاماً من ممارسة الإدارة الذاتية في الاقليم ، والذي بحاجة إلى بلورته ضمن آليات الديمقراطية الحقة بكل ما تتضمنه هذه الديمقراطية وما تشمله في حياة الإنسان الثقافية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية . هذه التجربة التي يمكن تطويرها نحو الأفضل واتخاذها كنموذج يُحتذى به أفرزت مؤشرات جيدة للشعب الكوردي ، لابل وللشعب العربي في عموم العراق ايضاً ، وما وجود اكثر من مليون انسان من مختلف مناطق العراق في كوردستان الجنوبية واحتضانهم من قبل الشعب الكوردي في محافظاته الثلاث وسير حياتهم هناك بعيداً عن الإرهاب الذي خلقته سياسة المحاصصات الطائفية في الحكومة المركزية إلا أحد المؤشرات على ذلك .
إننا نهيب بكل مَن إتخذ موقفاً منتقداً او رافضاً او حتى محارباً للإدارة الذاتية في كوردستان ، بما فيهم بعض الساسة الكورد انفسهم، خاصة اولئك الذين استعانوا بالفكر الشوفيني الضيق ، ان يفكروا ملياً في هذا الأمر ويضعوا نصب اعينهم الخيار بين هذا النمط الإنساني من التعايش مع الآخرين ، والمرهون بتطوره تاريخياً ، وبين ما تفرضه الأنماط الأخرى التي عاش الجميع آلامها ومأسيها ، وكل سياسة القمع والإقصاء والتهميش التي مارستها كل الدكتاتوريات المعادية لتطلعات الشعوب ونضالها من اجل تحقيق مصيرها . ولا يقتصر ذلك على الساسة الكورد فقط ، بل ان الواقع المر الذي يمر به كل الشعب العراقي من خلال تسلط سياسة المحاصصات المقيتة التي مارسها خلفاء البعثفاشية السوداء ، يتطلب سيادة نظام الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية لضمان حقوق كل الشعب العراقي بكل قومياته واديانه.