المنبرالحر

ستبزغ الشمس من جديد / د. إبراهيم إسماعيل

تمر هذه الأيام الذكرى المئوية لإنتصار ثورة إكتوبر الإشتراكية العظمى، التي مثلت لي ولجيلي من الشيوعيين والديمقراطيين، وما تزل، الحلم البهي - العصي على الموت، حلم قيام مجتمع يتمتع فيه البشر بآدميتهم التي شوهتها التشكيلات الطبقية المتعاقبة. وبديهي أن تشهد هذه الذكرى المهيبة، سجالات وحوارات واسعة، إتسم بعضها بالموضوعية والرقي وبحسن الإصغاء وعدم إدعاء العصمة، فيما أفرط البعض الآخر في مجافاة ذلك عبر تشدقه بديمقراطية تضمن له حق النقد وتحجب عن الآخرين حق الرد عليه!
ولعل أبرز ما يلاحظ في هذه السجالات، السخط الذي يعلنه منتقدو الثورة على أبرز قادتها، فلاديمير أليتش أوليانوف (لينين)، الذي خرج على نصوص ماركس «المقدسة» حين قرر إشعال الثورة في بلد ذي طابع فلاحي يؤهله لتطور رأسمالي تقوده البرجوازية، لا لثورة بروليتارية، أو حين مارس خطيئة العنف الثوري للقضاء على «الديمقراطية» البرجوازية! كما تـُحمل بعض هذه السجالات الرجل «اثام» ماحدث بعد وفاته، كتراجع النمو الإقتصادي وتغييب الحريات السياسية وغيرها.
وبرغم إني أعترف بفضل لينين على الثورة، التي صار رمزاً لها، الا إني لا أؤمن بعصمة الرجل من الأخطاء، أو أنه القائد الأوحد للثورة، كما دأبت الدعاية السوفيتية على تلقين الناس بذلك لعقود طويلة. ولهذا فإن من الإنصاف تماما أن يرتبط تقييم النجاحات والأخطاء بالحزب البلشفي وقيادته، وليس بشخص لينين وحده.
أما كان الإنتظار أجدى؟
يتلمس أصحاب هذا التساؤل مآل الاتحاد السوفيتي في تفاصيل ما حدث في أكتوبر، منتزعين الحدث من حاضنته التاريخية والحكم عليه على أساس الواقع الراهن وما يكتنزه من رؤى وخبرات متراكمة، مدعين إن ثورة إكتوبر إنما كانت فعلاً إراديا وتعجلاً ثوريا أحرق المراحل وبالغ بأهمية العامل الذاتي. وهم بهذا يتناسون بإن قراءة البلاشفة للماركسية في ظروف روسيا وعلى ضوء مختلف المستجدات الدولية، أوضحت لهم بإن روسيا الرأسمالية هي أضعف حلقة في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي، لا بسبب تخلفها (زراعيا وصناعيا) فحسب، بل وأيضا بسبب ما جرته عليها الحرب العالمية وسباق التسلح وإشتداد التنافس على النهب والنفوذ، من خراب وويلات، كانت كفيلة بكسر السلسلة في حلقتها الضعيفة هذه. إن هذا الظرف الموضوعي، الذي لم يفتعله البلاشفة بل إستثمروه، يدحض القول بأن بليخانوف ورفاقه الماركسيين كانوا على حق في معارضة لينين، إذ إن عدم قيام الثورة أو وأدها لأي سبب، لم يكن ليفتح الطريق أمام تطور رأسمالي سريع، بل كان سيحول روسيا الى تابع رأسمالي متخلف. يقول تروتسكي (لو قدر للرأسمالية أن تعود الى روسيا بعد اكتوبر، لكانت ستظهر ذات العجز التاريخي الذي أظهرته قبيل إنفجار 1917)، بينما تمكنت روسيا بثورتها الظافرة من تخطي تخلفها الاقتصادي والثقافي لتصبح دولة عظمى خلال سنوات قليلة. ومن هنا جاء تغيير النظام الاجتماعي السائد بنقل السلطة من طبقة أستنفد دورها التاريخي (تعفن النبلاء والطفيليين من جهة وعجز البرجوازية التام وغربتها عن الشعب من جهة مكملة) الى طبقة، أشرقت شمسها بفضل ما حمله لها نسغ التطور الموضوعي).
ورغم إن البلاشفة قد عرفوا ما تعانيه البروليتاريا الروسية من ضعف جراء التخلف الرأسمالي، الا إنهم أدركوا بأن هذه البروليتاريا، بإنتمائها الوطني الواضح وشعورها الأممي العميق، تستطيع أن تقود تحالفا تاريخيا مع الفلاحين والأقنان والشعوب المستعمرة، لا من أجل إنتصار الثورة البرجوازية وحل المسألة الزراعية والقومية، التي عجزت ثورة شباط البرجوازية عن حلهما، بل لتعبيد الطريق نحو المجتمع اللاطبقي عبر تحطيم هيمنة رأس المال.
ولم تكن إستراتيجة البلاشفة وتكتيكاتهم مبنية على رؤى نظرية مجردة وإنما على تراكم الخبرة الثورية وعلى رفض ملايين الناس وإستعدادهم للعمل المنظم، وهو ما تمثل في سلسلة من الثورات والإنتفاضات والهبات الواسعة التي لم يكن لها غير هدف مشترك واحد هو الحرية والعدالة الاجتماعية، حتى وصل عددها الى 33 ألف تمرد خلال 15 عاما، اي بمعدل 6 تمردات في اليوم الواحد. كما لم يلجؤوا للثورة البروليتارية الا بعد أن خانت حكومة كيرنيسكي البرجوازية مطامح الناس الذين أوصلوها للسلطة بثورة شباط، فرفضت إبرام السلام وتوفير الخبز، وأصرت على الحرب، وتمسكت بالأحلاف العسكرية وبمواصلة الصراع لكسب حصتها من التركة الإستعمارية للدول التي قاربت على الهزيمة كتركيا وألمانيا، وتركت الأراضي في حوزة الإقطاعيين، وانحازت للنبلاء والطفيليين والملاكين العقاريين، ومارست العنف والقمع الوحشي ضد الناس. وبهذا اتسقت قوة العامل الذاتي ـ التي هي بذاتها شرط موضوعي ـ بتوفر الظروف الموضوعية.
خطيئة العنف الثوري
وفي خضم هذه السجالات يجري الحديث عن ما رافق ثورة اكتوبر من عنف، دفع بالبعض الى وصف ثورة شارك فيها ملايين الجياع والحفاة بإنها لم تكن سوى انقلاب عسكري! ورغم اني لا أؤمن اليوم بالعنف، وأجده متعارضاً مع جوهر القيم الماركسية، فإني لا أستطيع أن أحاكم التاريخ بمنطق الواقع الراهن، والا لخسرت موضوعيتي. فهل لم يكن عنفاً مدمراً موت مليوني روسي على الجبهة! ألم يكن عنفا مدمرا إنتشار الجوع وارتفاع الاسعار بمعدل 1109في المائة واهدار ثروة بلغت 115 ترليون روبل؟ ألم يكن عنفاً موت ثلاثة ملايين روسي بسبب الأوبئة وسيادة الأمية والعبودية في أرجاء البلاد؟ ثم كيف كان ممكنا مواجهة مذابح تموز وقتل وقمع المعارضين واعدام المقاطعين للحرب؟ كيف لنا أن نتهم البلاشفة بالعنف ونغض الطرف عن مجازر الفاشست الكورنولوفيين وغيرهم؟ وكيف كان ممكنا مواجهة التدخل الأجنبي بمئة وثلاثين ألف جندي وبمشاركة 14 دولة؟
لقد مثلت الأحداث السياسية التي رافقت الثورة تصويتا ديمقراطيا حقيقيا لصالح مشروع البلاشفة، حين قرر مؤتمر سوفيتات روسيا الذي إنعقد بمشاركة مندوبين من كل أرجاء البلاد، تأييد قرار إزالة حكومة كيرنسكي بموافقة 590 مندوبا مقابل رفض 80 مندوبا، أي بنسبة 12في المائة! إن وصف ملايين الجياع البؤساء بالدموية لإنهم دافعوا عن حقهم في الحياة والعمل والتعليم والصحة وغيرها، لأمر لا إنساني تماما، فهذه الحقوق ليست أقل قدسية من حق التعبير عن الرأي وحرية التملك كما يتشدق بها أتباع الليبرالية الجديدة. وما تعيشه شعوب أوربا الشرقية وروسيا اليوم من فقر وبطالة ودعارة وفوضى وتمييز طبقي، لمؤشر صادم للطبيعة المتوحشة للنظام الرأسمالي الذي ترزح هذه الشعوب تحت عنفه اليوم. وفي الوقت الذي يعد تحميل البلاشفة أخطاء ما حدث فيما بعد في الاتحاد السوفيتي، إجحافاً للتاريخ، فإن الماركسيين اليوم أحوج ما يكونون لدراسة أسباب إستمرار التدابير الإستثنائية التي إضطرت لها الثورة في سنواتها الأولى، وكيف يمكن أن تطرح الإشتراكية ـ كنظام اجتماعي أرقى من الرأسمالية ـ نموذجها في الحرية، الذي يجب بالضرورة أن يتفوق في قيمه وأشكاله على الديمقراطية البرجوازية.
نهاية التاريخ
وفي مسار هذا الجدل تبرز أراء لدى بعض اليساريين تسعى إلى تكييف اتجاهاتهم مع ما يسمى (إنتصار الرأسمالية النهائي ونهاية ماركس والصراع الطبقي والتاريخ)، في محاولة لإيهام النفس بأن النظام الرأسمالي قادر على تجاوز أزماته بنفسه! ويبقى هذا الإنتقال من ضفة الى أخرى عاجزا عن حجب التناقضات التناحرية التي تعصف بالرأسمالية، اليوم أيضاً، حيث يتوازى التطور العلمي الهائل مع تعمق البؤس الاجتماعي، وحيث يشتد البؤس الاقتصادي في علاقة سلبية حادة مع إحتكار فئة صغيرة من البشر لمعظم الناتج العالمي، وحيث تترافق الثورة المعلوماتية مع تحويل القيم الروحية كالفن والأدب والرياضة الى سلع وتحول منتجيها الى إقنان القرن الحادي والعشرين. فمن إنتهى دوره ومات؟ هذه الرأسمالية المأزومة أم ماركس وصراعه الطبقي.
وإذ أحتفل بالعيد، رغم الغربة والمرض، تغمرني سعادة لا توصف وأنا أنحني أمام ذكرى كل البواسل الذين عمّدوا بالدم رايات الشعوب محققين لها الحرية والعدالة، ومتصدين لكل الذئاب التي نهشت خيراتها وصادرت إرادتها، فمن سواعد أولئك المتمسكين بقيم الإنسانية ـ لا من رؤوس المحافظين الجدد كما تثبت الأحداث العالمية كل يوم ـ ولدت قدرتنا الراهنة على الدفاع عن حقوق البشر وكرامتهم، وقدرتنا على قراءة فكرنا وتجاربنا بروح نقدية متحررة، والتخلص من المسلمات والديموغوغيا. نعم من تلك الإرادة التي لن تموت، ستبزغ الشمس من جديد.