المنبرالحر

مئوية ثورة اكتوبر .. تأثيرها الحاسم في تاريخ القرن العشرين ( 1 ) / رضي السمّاك

> إذا كان من المفهوم في ظل انحسار اليسار العالمي ، وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ألا تكون احتفالاته بذكرى ثورة اكتوبر الاشتراكية رغم مرور قرن عليها هذا العام ، بمثلِ احتفالاته الضخمة على شتى الأصعدة الفكرية والثقافية والاعلامية والفنية والكرنفالية في زمن الاتحاد السوفييتي فإن من غير المفهوم البتة ان تغيب ذكرى هذا الحدث التاريخي العالمي الفائق الأهمية عن تحليلات المؤرخين والمحللين العالميين ومراكز الابحاث والدراسات وعن اي ندوات عالمية فكرية تُعقد لهذا الغرض ولو من خلال تقييمات غير ماركسية أو محايدة أو حتى معادية للثورة اللهم استثناءات محدودة .
> فلم تكن ثورة اكتوبر 1917 في روسيا مجرد واحدةً من الأحداث الهامة للقرن العشرين بل كانت الحدث السياسي التاريخي الأكبر والأهم والابرز على امتداد القرن تقريباً واذي لعب دوراً محورياً في في رياح التغيير السياسية العالمية منذ أواخر العقد الثاني للقرن إلى مطلع العقد الأخير منه بانهيار الاتحاد السوفييتي ثمرة الثورة . ذلك بأن هذه الثورة / الدولة تركت بصماتها على مجمل أحداث القرن العشرين الكبرى بدءاً من التأثير في نتائج الحرب العالمية الاولى ( 1914 - 1918 ) وفضح وثائق الحلفاء التآمرية لتقسيم مناطق النفوذ الاستعمارية فيما بينهم ، ومروراً من الدور الحاسم الذي لعبته خلال الحرب العالمية الثانية ( 1939 - 1945 ) بتكلله بالانتصار المؤزر على المانيا النازية وما ترتب على هذا الانتصار الغالي من مكتسبات حوّلت دولة الثورة إلى دولة عظمى على الساحة الدولية وفرضت نفسها في المنظمة الدولية كواحدة من الدول الكبرى الخمس المتمتعة بحق الڤيتو في مجلس الأمن ، وما تبع ذلك من نشوء نظام عالمي جديد عٰرف بنظام القطبية الثنائية الذي تتقاسم مع الولايات المتحدة الهيمنة عليه ، ثم ما تبع ذلك أيضاً من اكتشافها سر القنبلة النووية وتحولها- الدولة السوفييتية - الى إحدى الدول التي تمتلك ترسانة جبّارة من الاسلحة النووية تضاهي الولايات المتحدة ، وليس انتهاءً بالدور المحوري الكبير الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في القضاء المُبرم على الامبراطوريات الاستعمارية الغربية في العالم وذلك من خلال تقديمه مختلف أشكال الدعم المالي والعسكري والتعليمي لحركات التحرر العالمية وبخاصة لقواها اليسارية التي كانت في طليعة تلك الحركات في أغلب البلدان المستعمَرة ولا سيما الاحزاب والتنظيمات الشيوعية التي تأسست بعد ثورة اكتوبر وكان من أهم العوامل الموضوعية لنهوضها وتنامي قوتها ما كانت تحظى به من رعاية ودعم دؤوبين من قِبل الاتحاد السوفييتي .
> ولكي ندرك جيداً التأثير الهائل الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في تغيير خريطة العالم السياسية ، ولا سيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية وعلى الأخص في تطور حركات التحرر العالمية يكفي أن نشير إلى ان ملياري إنسان كانوا يرزحون تحت نير الاستعمار الكولونيالي الغربي ( الاحصائية مستقاة من كتاب بحوث في الخبرة التاريخية للحزب الشيوعي الاتحاد السوفياتي ، الفارابي 1985 ، ص 144 ) ، علماً بأن البلدان الواقعة تحت الاستعمار الغربي كانت تشكل غداة ثورة اكتوبر 72% من أراضي المعمورة فيما يشكل مجموع القاطنين فيها نحو 70% من سكان العالم ، كما أن غالبية هذه البلدان بعد أن نالت استقلالها تباعاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية أصبحت دولها ( أكثر من 70 دولة ) تمثل ما يقرب من ثلثي دول العالم التي أنضمت إلى الامم المتحدة وأنضمت غالبيتها العظمى إلى حركة عدم الانحياز التي تأسست عام 1960 ، وحتى بالرغم من إعلانها الحياد بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي إلا أنه كان يغلب عليها الوجه الوطني التحرري في معاداة الاستعمار وفي العلاقات الحميمة والصداقة التي كانت تربط أغلب دولها بالاتحاد السوفييتي بل ، وبتأثر عدد كبير من دولها بالاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في تشييد انظمة ذات توجهات اشتراكية على النمط السوفييتي . ( إنظر تاريخ الحركة الثورية العمالية والديمقراطية ، جماعة من الاساتذة ، الفارابي ، 1985 ، ص 23 ) .
> وهكذا فكما نرى من الإستحالة تخيّل شكل خريطة العالم السياسية في القرن العشرين والتي بدأت تتشكل بعد الحرب العالمية الاولى وصولاً إلى شكلها شبه النهائي في أوائل ستينيات ذلك القرن لولا لم تقم ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917 ولولا وجود الاتحاد السوفييتي الدولة التي أسستها الثورة وجبروته الذي برز بوجه خاص منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، بل ولربما لما قامت هذه المنظومة الكبيرة من دول العالم الثالث المستقلة والتي أصبح لها وزن مؤثر بدرجة أو بأخرى على الساحة الدولية وفي مناوئة الأحلاف والسياسات والمشاريع والخطط الغربية الهادفة الى الهيمنة وفرض التبعية والاستتباع على الدول المستقلة بأدوات ووسائل متعددة اقتصادية وسياسية وثقافية وإعلامية تحت وفق ما بات يُعرف ب " الاستعمار الجديد " .
> بيد أن ثورة اكتوبر لم يقتصر تأثريرها الكبير على التحولات السياسية التي شهدها العالم بل وقبل كل هذا وذاك لعبت أفكارها دوراً محورياً في التحولات الاجتماعية داخل روسيا وبلدان جمهوريات الاتحاد السوفييتي وداخل عدد كبير من بلدان العالم الثالث الحديثة الاستقلال وحتى داخل البلدان الرأسمالية ، وهذا ما سنتطرق له في الحلقة الثانية من هذا البحث