المنبرالحر

مئوية ثورة اكتوبر .. آفاق نهوض الشيوعيين العرب من كبوتهم (5) / رضي السماك

اخترنا في المبحث السابق نموذجاً من الاخطاء التي وقعت فيها دولة ثورة اكتوبر الاشتراكية السوفييتية والمتمثل في تأييدها قرار تقسيم فلسطين فالعتراف السريع بالدولة الصهيونية "إسرائيل " ، ورأينا كيف انساقت الأحزاب الشيوعية العربية بدورها اتوماتيكياً خلف هذا الموقف السوفييتي رغم عدم قناعتها به ، ثم كيف دفع كلا الطرفين ثمناً باهظاً من جراء ذلك الخطأ الجسيم .
ومع إن الأحزاب الشيوعية العربية في مراجعاتها النقدية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي قد أقرت بصورة صريحة لا لبس فيها بهذا الخطأ ، فضلاً عن إقرارها بجملة من الأخطاء والعوامل السياسية التاريخية الاخرى لأسباب إنحسارها الجماهيري الحاد وتراجع قوة اليسار بوجه عام ، فإنه قد مضى أكثر من ربع قرن على مراجعاتها وبدت وكأنها لم تستفد من تلك المراجعات ، وبعبارة أدق بدا وكأن تلك التصحيحات لم تفضِ إلى خروجها من أزمتها التاريخية ، وكذلك الحال بالطبع بالنسبة للشيوعيين الروس وسائر الشيوعيين في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ، فما هي يا تُرى الأسباب التي تحول دون ترجمة تلك المراجعات والتصحيحات إلى أرض الواقع ؟
ولتقريب الصورة فثمة في تقديرنا ثلاثة عوامل رئيسية من جملة عوامل اخرى أدت إلى تراجع اليسار وتكاد تتفق عليها كُل المراجعات التي ظهرت تباعاً منذ " الانهيار " سواء على المستوى الحزبي أم على المستوى الفردي ، ويمكن القول بأنها من حيث تسلسل الأهمية يأتي العامل الديمقراطي أولاً ، ثم العامل الديني ثانياً ، ثم العامل القومي ثالثاً ،
كما يمكن القول ثمة سببين رئيسيين يكمنان وراء فشل الأحزاب الشيوعية العربية في ترجمة تصحيحاتها النظرية لمسيرتها النضالية والعملية إلى أرض الواقع :
السبب الأول : وهو سبب موضوعي يتمثل في إننا العرب جميعاً ما برحنا نعيش في ظل مرحلة سياسية تاريخية عربية مديدة بالغة التعقيد غير مسبوقة في خصائصها في تاريخنا الحديث من حيث حجم التحولات الفكرية والظواهر والمتغيرات الاجتماعية وبخاصة بعد صعود المد الديني اجتماعياً وسياسياً والذي أخذ يتنامي تدريجياً منذ هزيمة يونيو / حزيران 1967 قبل 50 عاماً وتضاعفت مُعدلات تناميه بصورة سريعة بعد الثورة الإيرانية عام 1979 . وإذ مضى نصف قرن دون أن تلوح في الأفق أية بوادر تشير إلى قرب اُفول هذه المرحلة التاريخية المُظلمة فإنه من الصعوبة بمكان أن يغيّر الشيوعيون وحدهم شيئاً من خصائصها الموضوعية بين عشية وضُحاها ، فإذا ما سلّمنا إن الشيوعيين العرب لم يواجهوا منذ تأسيس أحزابهم التي شهدت فترات من المد والجزر تعقيدات مرحلة تاريخية بالغة كالمرحلة التي ما فتئنا نُعايشها سياسياً واجتماعياً ، فإن تغيير سماتها السلبية بغية تسهيل نضالات الشيوعيين في ظلها تُعد من الناحية الموضوعية فوق طاقاتهم وقدراتهم ، ذلك أن مرحلة بمثل هذه الكوابح والمعّوقات الكبيرة المتعددة الاشكال هي بحاجة إلى قوى سياسية واجتماعية أوسع وإلى نهوض جماهيري أعرض ، وكلا هذين المطلبين لن يبلغا شروط نضوجهما بين سنة أو عقد من الزمن بل بحاجة إلى تراكم نضالي مجتمعي طويل قد يكون بطيئاً بفعل مظاهر وخصائص المرحلة التاريخية الراهنة المديدة ، ويتوقف التسريع في تبديدها على مجمل القوى السياسة صاحبة المصلحة في التغيير وعلى مدى تطور الوعي الجماهيري للقدرة على التسريع في اُفول هذه المرحلة وهي عملية لا تسير دائماً بسلاسة أو في خط مستقيم .
السبب الثاني : وهو سبب ذاتي ويتمثل في جانبين : غياب العناصر الشبابية أو الكهلية ( بين سن الثلاثين والخمسين ) عن معظم قياداتها وقواعدها ، هذا جانب ومن جانب اخر فإن طغيان تقاليد سياسية طويلة من الاستبداد المجتمعي العربي ونفي الرأي الآخر داخل الحياة الحزبية يصعب نبذها في الممارسة اليومية بجرة قلم أو التطهر الفوري منها بمجرد الاعتراف بالاخطاء خلال هذه الفترة الوجيزة .
وبالتالي علينا ألا ننسى أيضاً إن الشيوعيين ليسوا رسُلاً أو أنبياء في مجتمعاتهم بل هم أبناء مرحلتهم بخصائصها الموضوعية التي تنعكس بقدر أو آخر على طرائق تفكيرهم وطبائعهم والتي من جملتها تأثرهم كغيرهم بطابع وتقاليد الاستبداد العربي الموروث تاريخياً منذ قرون طويلة وفي مجتمعات لم تشهد أي ممارسات ديمقراطية ، ولكن عليهم أن يكونوا هم الأجدر في إعادة تربية ممارساتهم ومسلكياتهم الحزبية والنضالية اليومية .
مهما يكن فإنه بقدر ما يخطو الشيوعيون العرب في العوامل الثلاثة الرئيسية الآنفة الذكر ولو بضع خطوات بدءاً من المسألة الديمقراطية بدمقرطة حياتهم الحزبية وفي تعاملهم مع الآخر السياسي ، ومروراً بمدى قدرتهم على ابداء أحترام أكبر للدين والتواجد بين أعرض الجماهير الذي تؤمن به ويسعدها من يبدي احتراما له ولها ويشاركها في مناسباتها الدينية ، وانتهاءً بمدى قدرتهم على التعاكي بشكل أفضل لمشاعرها القومية وتنظر للبُعد القومي في قضايانا نظرة واقعية لا تنفيه بالإفراط في الاُممية ... نقول بقدر ما تتمكن في قطع خطوات في كل ذلك فإنها يمكن القول بأنها بدأت تسير على سكة النهوض الحقيقية نحو استعادة قوتها ونفوذها الجماهيري . ولا شك بأن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة .