المنبرالحر

الطريق الجديد لإشتراكية المستقبل (6) / رضي السمّاك

نرى في خاتمة الدراسة التي أعددناها بمناسبة ذكرى مرور قرن على أول ثورة اشتراكية في تاريخنا المعاصر ( إكتوبر 1917 ) في روسيا والتي تناولنا فيها تقويم تجربة الثورة والدولة الاشتراكية التي أنشأتها "الاتحاد السوفييتي " جنباً إلى جنب مع تقويم المسيرة النضالية الطويلة للأحزاب الشيوعية العربية التي استلهمت تلك التجربة بقيادة حزبها الحاكم الحزب الشيوعي السوفييتي .، لا بد لنا من طرح جملة من الخلاصات العامة حول القضايا المتصلة بأخطاء تحديداً بالجانبين الشيوعيين العربي والشيوعي السوفييتي ومن ثم استشراف وتلمس آفاق الطريق النضالي الجديد المفضي للهدف الأسمى نحو بناء الاشتراكية على اُسس وطيدة بصيغة ذات قطيعة مع كل الاُسس والاساليب القديمة البالية التي أتبتت التجارب عقمها وأفضت إلى الانهيارات المريعة في أواخر القرن الآفل :
أولاً : فيما يتعلق بتأييد الزعيم السوفييتي ستالين لقرار تقسيم فلسطين 1947 والذي تبعته فيه الأحزاب الشيوعية العربية فوراً فإن هذا القرار ليس صادرا عن حذق وبُعد تفكير واقعي سبق فيه هذا الزعيم الشيوعيين العرب بقدر ما كان يستند إلى تقديرات سطحية لم تقدر تقديراً كافياً الجوهر الحقيقي للحركة الصهيونية ومخاطر مشروعها لإقامة دولة إسرائيل على أراضي فلسطين العربية ليس فقط على مصير وهوية شعبها وحقه في تقرير مصيره بعد انتهاء الانتداب البريطاني فحسب ، بل وعلى حركة التحرر الوطني العربية برمتها ، فضلاً عن مخاطره على نفوذ ومصالح الاتحاد السوفييتي السياسية في المنطقة القريبة من حدوده ، وهذا ما برهنت بقوة على صحته الملابسات والأحداث التاريخية حتى إنهياره ، وهو ما اعترفت به أيضاً شخصيات سوفييتية نافذة وإن كان ذلك في أعقاب الانهيار . والحال فإن ستالين كان يعوّل على اجتذاب أقطاب ما كان يُعرف ب " الاشتراكية الصهيونية " بعد تأسيس إسرائيل والتي كان بعض اليهود الروس من حملة رايتها في حين لا يريد منظرو هذه الايديولوجية ذات النزعة الصهيونية أن يعترفوا بأن هذه الدولة التي يسعون إلى تأسيسها لن تكون سوى دولة يهودية برجوازية تحكمها البرجوازية اليهودية ومعادية لحركة التحرر الوطني العربية ( انظر في هذا الشأن : دائرة المعارف الاشتراكية ، حمدي عبد الجواد ، ملحق رقم " ١ " من مجلة دراسات اشتراكية ، القاهرة ، ب . ت ، ص 16 - 18 ) . وكون التقسيم أضحى خياراً واقعياً مُراً بعد نكبة حرب 1948 لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لإقامة دولة فلسطينية - استناداً للقرار - على الأراضي التي نجت من الاغتصاب فيما لم يتنازل العرب عن تمسكهم برفض القرار ، فإن كل ذلك لا يعني صحة وحذق القرار الستاليني بالموافقة عليه فور صدوره من الامم المتحدة والذي بني عليه المجتمع الدولي لاحقاً اعترافه بالدولة العبرية ، ولربما لو تريّث الاتحاد السوفييتي في موقفه من القرار وكذلك تريّث من الاعتراف الفوري بأسرائيل لكان الوضع مختلفاً بشكل أو بآخر في النتائج المترتبة على الاعترافين واللذان استفادت منهما إسرائيل أيما استفادة ووظفتهما دولياً لصالحها .
ثانياً : فيما يتعلق بأخطاء ستالين فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال التسليم بأنه قد أستهل حكمه بعد لينين بالاسلوب الاستبدادي داخل الحزب وداخل الدولة من الصفر ، بمعنى بأن لينين قد رحل وسجله وممارساته في السلطة والحزب لا تشوبه شائبة ، لولا لم تكن ثمة ثغرات تنظيرية وفي الممارسة عرف ستالين كيف يستغلها جيداً لتعزيز وتوسيع سلطاته الدكتاتورية الفردية الدموية ، ذلك بأن لينين هو من أمر بحل الجمعية السياسية التي لم يفز في انتخاباتها سوى 25 % من البلاشفة ، وهو من وقّع المراسيم التي تحظر الاحزاب السياسية باعتبارها برجوازية ومعادية لسلطة السوفييت ، بل وشمل الحظر حزب الاشتراكيين الثوري حليف البلاشفة في ثورة اكتوبر ، وهو أيضاً من أصدر أمراً باعتقال جميع المناشفة المشكوك في ولائهم ، وهو من كتب يقول : " إن مكان المناشفة والاشتراكيين الثوريين ، سواء منهم المكشوفون أو المموهون تحت قناع اللاحزبيين ، هو السجن " ، وهو أخيراً من أمر باعتقال مالايقل عن ألفي حزبي من هؤلاء المناشفة والاشتراكيين الثوريين ، بمن فيهم أعضاء في اللجنة المركزية وتصفيتهم إعداماً . ( انظر : جورج طرابيشي ، الديمقراطية والأحزاب في البلدان العربية ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 74- 75 ) .
وإذا كُنا لفتنا النظر قِبلاً إلى تبقي -على الأقل - بعض رواسب النزعة الاستبدادية بهذا القدر أو وذاك في مسلكيات القادة الشيوعيين العرب حتى بعد مراجعاتهم التصحيحية وعدم تمكنهم من التخلص منها بصورة نهائية تحت تأثير طابع الاستبداد التاريخي المجتمعي العربي الطويل ، فإن فإن نزعة الاستبداد الستاليني هي الاخرى غير منفصلة عن مواريث الاستبداد الاقطاعي الروسي الطويل و الذي ترك تأثيره وانعكاسه موضوعياً على الوعي الاجتماعي العام ، وبضمنه وعي النُخب المثقفة والسياسية والفئات الفلاحية ، فضلا عن تأثير الاستبداد البطريكي الابوي المتسلط في الريف ( إنظر في هذا الصدد : سلامة كيلة ، نقد الحزب .. المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي ، دمشق ، خطوات للنشر والتوزيع ، ص 13 - 14 ) .
وإذا كان افتقاد الخبرة والتقاليد الديمقراطية في المجتمع الروسي قد ترك تأثيره موضوعياً سلباً على المفكرين والقادة الماركسيين ، فإن غياب المسائل الديمقراطية عن تنظيرات ماركس يمكن إرجاعها أيضاً لكون المسألة الديمقراطية كانت ناجزة في المجتمعات الاوروبية الغربية ، ولأن من جاءوا بعده ظلوا ينظرون لها كإنجاز برجوازي معيب . ( نفس المصدر : ص 114 - 115 ) . وهنا يمكن القول بأن الخلاف بين ما عُرف بالشيوعية الاوروبية أو " الأوروشيوعية "والحزب الشيوعي السوفييتي ومعه سائر الاحزاب الشيوعية العالمية التي تقتدي به إنما يكمن في إن الاولى تعيش في دول ديمقراطية تكرست فيها تقاليد مديدة من التعددية السياسية وعدم مصادرة الحريات العامة والحريات الصحفية وكفالة حق الرأي والرأي الآخر بغض النظر عن كونها دول رأسمالية وتعتور تجاربها ثغرات .
كما من المفارقات الصارخة في هذا الشأن أنه في الوقت الذي ناضل فيه الشيوعيون خارج السلطة في العالم من أجل إقامة أنظمة دستورية ديمقراطية في بلدانهم وفي الوقت الذي يستفيدون فيه أيضاً من مزايا الانظمة الديمقراطية أو شبه الديمقراطية القائمة لاكتساب شرعية أحزابهم ونقاباتهم وصحافتهم ، بل وللوصول للسلطة أو الحصول على أغلبية برلمانية أو ثقل برلماني ، فإنهم يعتبرون بأن لا حاجة للمجتمعات الاشتراكية لمثل هذه الحقوق والمكتسبات الدستورية والديمقراطية ، ومن الطبيعي والواجب مصادرتها باعتبارها منافذ لانقضاض الثورات البرجوازية المضادة على سلطة العمال والفلاحين ، في حين ان تغييب الديمقراطية والتعددية السياسية والنظام الدستوري المُنتخب هو من أبرز جملة أسباب انهياراتها. أكثر من ذلك فإنهم في الوقت الذي يدينون فيه الانقلابات غير اليسارية على اختلاف توجهات جنرالاتها فإنهم لا يتورعون عن تأييد الانقلابات العسكرية إذا ما كان جنرالاتها من ذوي الميول اليسارية أو أعضاء في أحزابهم ، ولعل الوقائع التي جرت في بلدان افريقية وامريكية لاتينية ، بل وحتى عرببة ، نحسبها معروفة.
ثالثاً : إذا كانت الاحزاب الشيوعية العربية قد أقرت في مراجعاتها لمسيراتها النضالية بأهمال الديمقراطية أو تهميشها في الحياة الداخلية الحزبية فمن الاهمية بمكان أن يقترن ذلك بالنضال فكراً وممارسةً في بلدانها من أجل إقامة أنظمة ديمقراطية تعددية دستورية ونبذ أنظمة الحزب الواحد بمختلف هوياتها السياسية ولو كانت يسارية ، ويندرج في عداد ذلك ادانة كل انتهاكات حقوق الإنسان التي تطال أي أفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية ، ومن ثم عدم الاقتصار في الادانة على المنتمين الى القوى اليسارية .
رابعاً : إذا كانت الأحزاب الشيوعية قد أقرت أيضاً ما وقعت فيه من خطأ سيرها وراء تنظيرات الحزب الشيوعي السوفييتي فيما يتعلق ببعض التلفيقات التنظيرية في وصف بعض اشكال الانظمة الوطنية التي تقودها قوى يسارية أو قومية وطنية كالتي أطلق عليها بانها تسير في طريق التطور "اللارأسمالي " أي ستصل الى الاشتراكية متخطيةً بنيتها المتخلفة الاقطاعية أو شبه الاقطاعية دون المرور بالرأسمالية ، بل وبعض الباحثين أو المفكرين اليساريين لم يستثنوا حتى لينين من الأخطاء في التنظير كما الممارسة ، فإنه ينبغي في المقابل إعادة دراسة الأعمال الفكرية لكل المناضلين المفكرين اليساريين الذين تم تشويه مواقفهم سواء ممن اختلفوا مع لينين أم من اختلفوا مع ستالين وذلك لانتقاء ما هو صواب ومحق للاستفادة منه ، ومن هؤلاء تروتسكي وبليخانوف وبوخارين وكالينين وغيرهم . وبالمثل ينبغي اخضاع كل الاعمال والاسهامات الفكرية التي صدرت لمفكرين وباحثين عرباً على اختلاف انتماءاتهم للدراسة التمحيصية للاستفادة مما يمكن الاستفادة منه في إعادة بناء منظومة فكرية يسارية تقدمية تأخذ بعين الاعتبار بوجه خصائص المرحلة التاريخية التي تعيشها البلدان العربية ووفق ظروف كل بلد و تكون مرشداً للطريق النضالي الجديد للاحزاب الشيوعية العربية .
و صفوة القول : لقد برهنت إخفاقات وانهيارات التجارب التاريخية للانظمة الاشتراكية طوال القرن العشرين بأن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للوصول إلى أي شكل من أشكال اشتراكية المستقبل ولتطوير سُبل بنائها والمحافظة عليها وحتى إذا ما سلّمنا جدلاً وقامت الثورات الشعبية ذات الاهداف الاشتراكية فلا مناص لها من إقامة نظام ديمقراطي تعددي يمكنها من صيانة الحكومة الاشتراكية المُنتخبة، فبالديمقراطية وحدها يمكن بناء وتطوير النظام الاشتراكي نحو صيغة اكثر رسوخاً إذا ما فشلت وعجزت الصيغة القائمة عن تمثيل مصالح العمال وسائر الكادحين ، وبالديمقراطية يمكن تطوير محتوى الديمقراطية ذاتها في مؤسسات النظام ومؤسسات المجتمع المدني كافةً .