المنبرالحر

كيف نقرأ الاحتجاجات الشعبية في إيران ؟ / رضي السماك

منذ عشرة أيام والاحتجاجات الشعبية على الفساد وتردي الاحوال المعيشية والتي اندلعت في عدد من المدن تتواصل ؛ وإذ بدا اندلاعها قد باغت النظام الحاكم في إيران ومؤيديه في داخلها و خارجها فإنها كانت متوقعة لأي مراقب حصيف للأوضاع الداخلية الإيرانية منذ نحو عقدين وذلك بالنظر لتدهور الاحوال المعيشية للطبقات الفقيرة والوسطى وتفاقم الفساد وازدياد معدلات البطالة ، وهذا ما أفضى بدوره لانتعاش سوق الدعارة والمخدرات والسوق السوداء للخمور ، وكلها ظواهر سلبية موثقة ومعترف بها ومُعززة بالاحصاءات لدى الجهات الرسمية ، بل ولطالما تناولتها أيضاً صحافة التيار الإصلاحي وحذرت من تفاقمها منذ سنين طويلة ، دع عنك رصدها من قِبل المصادر الخارجية المحايدة .
وهكذا فعلى الرغم من الطابع الشعبي العفوي التي تميزت به الاحتجاجات العارمة إلا أنها جاءت نتاجاً طبيعياً لسخط تراكم تدريجياً طوال العقود الثلاثة الماضية منذ رحيل الإمام الخُميني وذلك وتكرس بإنفصال طبقة الملالي الحاكمة وحاشيتها والمنتفعين من حولها المنتفذين في مفاصل جهاز الدولة والمؤسسة الدينية عن هموم وآمال وآلام الشعب ، وعلى الأخص "المستضعفون "- حسب مصطلح الايديولوجي الديني - للنظام منهم الذين قامت الثورة الايرانية في عام 1979 من أجلهم ممثلين في الطبقات العمالية الفقيرة والوسطى والفلاحين وصغار التجار ، ومن ثم محاولة استغلال مشاعرهم الدينية الإيمانية البسيطة لتخديرهم بالشعارات الثورية الدينية المتقادمة منذ انتصار الثورة ، وهي -كما نعلم - شعارات عفى عليها الدهر وشرب ويجري اجترارها حرفياً منذ نحو 40 عاماً على الرغم من كل التحولات الهائلة التي شهدها العالم والمنطقة ، وعلى الرغم من ظهور أكثر من جيل من الشباب - ذكوراً وإناثاً - يشكلون غالبية السكان ولم تعد تستهويهم أو تجذبهم تلك الشعارات أوتلبي طموحاتهم في حياة معيشية كريمة وعصرية كسائرشعوب واٰمم العصر . كما ان اندلاع الاحتجاجات جاء أيضاً نتاجاً طبيعياً لنظام ديني متزمت ومتسلّط لم يكتفِ بأن عمِد إلى قمع واقصاء القوى التي شاركت معه في صنع انتصار ثورة 1979 الشعبية بعد أن دانت الدولة الدينية الجديدة لأقطابه ، مع أنها قوى وطنية ليبرالية ويسارية وقومية ودينية مستنيرة معروفة بعراقتها النضالية تاريخياً وظلت تناضل لعقود طويلة ضد نظام الشاه الدكتاتوري السابق وقدمت تضحيات هائلة لا تقل عن تضحيات التيار الديني الذي كان له النفوذ الاقوى عشية الثورة في ملء فراغ ساحة المعارضة الناجم عما لحق تلك القوى الوطنية من وهن وإنهاك جراء ما عانته من أعمال القمع الوحشي ممنهج على أيدي "السافاك " كواحد من أشرس أجهزة استخبارات الانظمة الدكتاتورية في العالم ويحظى بدعم أسرائيل وأمريكا ، بل وعمد أيضاً في ازاحة وقمع حتى القوى وذوي الرأي الآخر من الشخصيات الدينية الكبيرة التي شاركته في تأسيس النظام ثم اختلفت مع القوى النافذة فيه ، ناهيك عن محاربة الجناح الإصلاحي المستنير والتضييق عليه .
أضف إلى ذلك فإن النظام لم يُؤسس منذ تفرد أقطابه بالغلبة والاستئثار بالسلطة غداة انتصار الثورة على اُسس ديمقراطية دستورية حقة و المتعارف عليها عالمياً والتي تضمن التعددية السياسية وكفالة كل اشكال الحريات العامة ومنها حرية الصحافة وحق التظاهر وهي ذات الشعارات التي ما انفك يطالب بها انصاره العرب في بلدانهم ضد أنظمتها الدكتاتورية في حين لايرون حاجة لتطبيقها في دولة ولاية الفيه ونائب الامام الغائب ، فقد فُصّل النظام على مقاس صارم أحادي الجانب تبع لأفكار ورؤى الآيات الكبار الدينية وفق اُسس دينية مذهبية تقوم على اقصاء التعددية السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية في المجتمع الايراني ، وتمت مصادرة حتى الحريات الشخصية في اللباس واسلوب الحياة الشخصي بإسم العفة والشرع .
ومع ذلك فلم يكن تحديد الموقف في منطقتنا العربية من الحدث الايراني الأخير سهلاً بل شابته تعقيدات والتباسات جمة من جراء التدخل الفظ لامريكا وبعض القوى الاقليمية الرجعية المعادية لايران بكل قوة في تلك الاحتجاجات ، حتى وصل جنون التدخل الامريكي الى زج شأن داخلي بحت في مجلس الأمن الدولي وهو ليس من اختصاصاته ، وهذا ما يبرهن المرة تلو المرة بسياسة ازدواجية المعايير الذي تتبعها أمريكا بالصمت والمحاباة تجاه أنظمة دكتاتورية حليفة لها مارست وتمارس قمع دموي ووحشي لانتفاضات شعوبها السلمية من أجل الحرية والديمقراطية والاصلاح آخر في حين ترفع عقيرتها وتزلزل العالم زلزالاً في مثل هذه الحالات تجاه الأنظمة الشمولية التي لا تروق لها .
ولكون النظام الايراني يرفع شعارات معاداة أمريكا وإسرائيل والصهيونية ودعم القضية الفلسطينية ، فضلاً عن دعم فصيل سياسي لبناني من قوى المقاومة والممانعة اللبنانية ضد إسرائيل مُمثلاً على وجه التحديد في حزب الله ، ولكون الحدث الايراني أيضاً جاء في في وقت تشهد فيه المنطقة العربية تكالب منقطع النظير نحو التطبيع من قِبل أنظمتها مع إسرائيل وتعاظم اجراءات قمعها الوحشي بحق حراكات وتطلعات شعوبها للإصلاح والتغيير وهي ذاتها الانظمة ، وعلى الاخص البترولية منها والتي وجدت ضالتها لتصفية حسابها مع النظام الايراني الذي تناصبه العداء اكثر من إسرائيل في تلك الاحتجاجات الأخيرة ونزلت بكل ثقلها إعلامياً وحتى مالياً لدس المخربين من قوى التطرف الايرانية كمجاهدي خلق الارهابية .. لكل هذا وذاك وجدنا أصواتاً يسارية ووطنية عربية تنساق وراء " نظرية المؤامرة " في التشكيك وانكار حقيقة الاحتجاجات الشعبية الايرانية المتواصلة حتى على الرغم من انها تحظى بدعم وتأييد قوى يسارية ووطنية ايرانية ناهيك عن دعم الجناح الإصلاحي داخل النظام لها ولو على نحو حذر وخجول .
والحال أن التدخلات الفظة الامريكية والعربية الرجعية لنصرة الانتفاضة الشعبية الايرانية ءنما ادت لتشويه الطابع السلمي للاحتجاجات واعطاء مبرر للنظام لقمعها بكل قوة ، ومن ثم فهي خدمت النظام أيما خدمة عوضاً عن أن تنصر الاحتجاجات .
وإذ يمكن موقف قوى الاسلام السياسي الشيعي العربي المؤيّد بقوة للنظام الايراني قلباً وقالباً وحيث مازالت تُقدسه تقديساً مطلقاً منذ انشائه وترى بأنه نظام مُقدس لا يأتيه الباطل بين يديه ولا ومن خلفه ، فقد صوّرت أصوات اخرى من ذات التيار اليساري العربي بمختلف قواه والوانه الاحتجاجات الايرانية وكأنها ثورة شعبية عارمة وان النظام أزِف رحيله وهي ذات الأصوات التي اعتادت الا ترى من شر الانظمة الدينية في المنطقة سوى النظام الايراني ، ولطالما أغمضت العين وتجاهلت وجود نظام كهنوتي آخر أشد منه في التخلف والاستبداد السياسي في ذات الأقليم ولا تتطرق الى ممارساته لا همساً ولا لمزاً .
مهما يكن فإن الاحتجاجات الايرانية الراهنة والتي راح ضحيتها خلال اسبوع واحد اكثر من 20 قتيلاً ، وإن خفت حدتها مؤخراً فهي بمثابة جرس إنذار للنظام لقراءة خلجات معاناة شعبه المديدة من الغلاء والفساد وتدني الاجور وقمع الرأي الآخر قراءةً موضوعيةً ، وعدم التوهم بأنها مجرد مؤامرة من " الشيطان الأكبر " ، ومن ثمَ فإنه يتوجّب عليه المبادرة باجراء إصلاحات جذرية ديمقراطية قبل فوات الاوان ، لاسيما وانه مازال يتمتع بقسط من الرصيد الشعبي ، وإن كان ليس بالنسبة الكبيرة التي يرغب النظام بتصويرها للعالم ، كما يفعل الآن عبر تسيير المسيرات الأخيرة المؤيدة له والتي نظمها في اعقاب قمع الاحتجاجات الاخيرة . صحيح ان جزءاً من المشاركين في تلك المسيرات المؤيدة شارك لأنه كان ناقماً على أعمال التخريب أو لنقل حتى مؤيد للنظام ، إلا أنه من نافلة القول في بلد يصل تعداده ما يقارب مائة مليون ليس من الصعوبة على النظام بكل وسائله وأجهزته وامكانياته الهائلة المالية والاجتماعية وحتى الدينية خصوصاً والتي يبرع من خلالها دغدغة مشاعر الناس البسطاء الدينية في أن يحشد مسيرات تناهز عشرات الالوف في شوارع المدن الضيقة أو حتى تقارب المليون ، والجزء الأعظم من هؤلاء هم من موظفي الجهاز البيروقراطي المتضخم للدولة وكوادر ومشايخ وطلبة الحوزات الدينية التي تسيطر عليها السلطة الدينية الحاكمة ، فضلاً عمن تمكن من حشدهم من طلبة الجامعات وأفراد عديدة من الجيش والشرطة والحرس الثوري بملابسهم المدنية ، ونحن نتذكّر جيداً كيف كانت تبرع الانظمة القومية العربية في تسيير مثل تلك المسيرات المؤيدة للرئيس وعلى الاخص في مصر وسوريا والعراق وليبيا خلال عهود انور السادات وحافظ الاسد وصدام حسين ومعمر القذافي .
وإذا كان يُحسب للنظام الايراني تمسكه بمعاداة إسرائيل ومقاطعتها ودعم الفصائل الفلسطينية ، وإن كان هذا الدعم مازال مقتصراً على الفصائل الاصولية منها كحماس والجهاد ، فضلاً عن دعمه اللا محدود لحزب الله اللبناني، فإنه آن الأوان للنظام ان يُقدم على موازنة دقيقة بين متطلبات الانفاق الداخلي والانفاق الخارجي بمراجعة هذا الدعم المالي والعسكري بحيث لا يكون على حساب اولوية الصرف على متطلبات التنمية الداخلية والحفاظ على الحد الادنى المقبول من الحياة المعيشية لشعبه ، ولكي لا يتحول هذا الدعم أيضاً سبباً وباعثاً لبروز الاتجاهات الشوفينية الناقمة على النظام وعلى العرب والقضية الفلسطينية على السواء . وكانت قد برزت أصوات إيرانية خجولة من هذا القبيل منذ نحو عقدين وتعالت في الاحتجاجات الأخيرة . وعلى النطام أن يستفيد أيضاً من درس ذات الاتجاهات العنصرية والشوفينية تجاه العرب التي برزت في روسيا غداة انهيار الاتحاد السوفييتي بسبب عدم اقدامه هو الآخر أيضاً على مراجعة مالية تعطي الاولوية للإنفاق الاقتصادي الداخلي بما يحافظ على المستوى المعقول للحياة المعيشية لشعبه ومن ثم استمراره على نفس معدلات دعمه المالي والعسكري الكبير لأنظمة وقوى التحرر الوطني العربية والعالمية حتى في عز سنوات أزمته الاقتصادية .
وأخيراً فلربما ندرك جيداً بأن واحداً من أبرز الاخطاء التي وقعت فيها قيادة حزب الله واستفزت الجماهير الشعبية الايرانية إمعانها بالتباهي بدعم الجمهورية الإسلامية الايرانية اللامحدود لكل ميزانية الحزب وتسلحه تقريباً ، بل أن السيد حسن نصر الله رفض حتى في الحوار الاخير الذي أجراه معه الاعلامي اللبناني سامي كليب في قناة الميادين الإفصاح عن حجم الدعم إن كان يُقدّر بملايين الدولارات أم بالمليارات !