المنبرالحر

(اليوسي ماس) تجارة الوهم! / محمد شريف أبو ميسم

من بين مجموعة من الرسائل الالكترونية التي وردت لي قبل أيام،لفت نظري عنوان (مركز يوسي ماس العالمي لتطوير الذكاء .. ).. وحين اطلعت على مضمون الرسالة التي استندت على تقرير علمي تبين لي انه إعلان تجاري لتسويق خدمات ما سمي ببرنامج (لتطوير القابليات الإبداعية والذهنية للأطفال ما بين سن الخامسة إلى 14 سنة .. ويبدو ان الشركة التي وزعت هذا الاعلان على مئات الايميلات لرجال أعمال وصحفيين وأكاديميين من خلال احدى شركات الاعلانات المحلية ، اتخذت اسما لها وكأنها معنية منذ زمن طويل بـ(جيل المستقبل) فأطلقت على نفسها هذا الاسم (للتدريب وتجارة البرامج التعليمية) بما يوحي بتخصص غاية في الدقة بهدف دعم التعليم الذي يعاني أصلا من اختلالات بنيوية في المناهج وطرق التدريس والكوادر التعليمية في البلاد بجانب تخلف البنية التحتية وعدم سعتها لأعداد التلاميذ في البلاد.. فجاءت هذه الشركة لتعلن عن دخولها للعراق في هذا العام لخلق جيل من العباقرة في علم الرياضيات! (بعيدا عن وزارة التربية!) مستندة على تسويق يستخدم العلم لبيع الوهم وجمع الأموال الطائلة .. فقد تضمن الاعلان شرحا مفصلا عن فسلجة الدماغ حيث ينقسم الى نصفين، يكون النصف الايسر مسؤولا عن المهارات اللغوية ومعالجة المعلومات بطرق تحليلية ومتسلسلة بينما يعالج النصف الايمن المعلومات بطريقة بديهية وفورية ناظراً أولاً الى الصورة ككل ثم الى التفاصيل لذا فهو يترجم المرئيات ويكون مسؤولأ عن التخيل والتصور والفنون والاستدلال والحدس والابداع بعكس الجانب الايسر الذي يكون مسؤولأ عن المهارات اللغوية والرياضيات الخطية والتسلسل والتفسير المنطقي.
ثم يسهب واضع الاعلان الذي يبدو انه استخدم ذات النص الاعلاني في أسواق الدول العربية في شرح وظيفة الجانب الايمن من الدماغ وكيف تضمحل جراء الانظمة التعليمية التي تركز بشكل كبير على المهارات الخاصة بالجانب الايسر من الدماغ كالرياضيات واللغة والتسلسل المنطقي ، فيما تبقى المهارات المتعلقة بالتخيل والفنون والابداع قليلة نسبيا بل تكاد تنعدم في بعض الحالات، فيأتي دور برنامج (اليوسي ماس ) لاستغلال النصف الأيمن الذي يكاد يكون مهملاً عبر برنامج تدريبي لمدة 30 شهرا ،يعتمد آلة صينية عمرها 3000 سنة تسمى (الأباكس ) في مراحله الأولى (وهي مجموعة خرزات متحركة على مجموعة أعواد داخل مستطيل مقسم الى نصفين غير متساويين) وهي مرحلة يتم فيها تطوير مهارات التخيل والذاكرة وقوة الملاحظة والاستماع والتركيز حيث يتمكن الطفل من تخيل آلة (الأباكس) والقيام بالعمليات الحسابية ذهنياً. فيتعامل الاطفال المتدربون على برنامج(يوسي ماس) مع الارقام على انها صور تختلف عن بعضها البعض بأختلاف ترتيب الخزرات على آلة (الأباكس) وبالتالي ستتحول العمليات الحسابية التي كان النصف الايسر مسؤولاً عنها الى النصف الايمن من الدماغ على شكل تحفيز صوري .. ومن المفيد هنا أن نشير الى الضجة التي حصلت في كل من مصر والسودان في العام 2008 بعد أن تقدمت حركة "مواطنون ضد الغلاء" ببلاغ عن واقعة قيام شركة يوسي ماس مصر بإدخال برنامج، زعمت بأنه ينمي القدرات الذهنية لدى الأطفال،وتبين ان هذه الشركة توهم المواطنين بتنمية الذكاء بهدف الاستحواذ على المال عبر برنامج مزيف يعلم طريقة للعد الحسابي فقط ويقيد الدماغ في مجموعة صور آيلة للزوال بعد أشهر من ترك برنامج التدريب، بحسب جريدة اليوم السابع في 19 حزيران 2008. فيما نشرت الأهرام المصرية في 22 تموز 2012 تحقيقا مع مجموعة من المختصين أكدوا زيف "اليوسي ماس" الذي يقيد حركة الطفل ويقهره، لأن حفظ الطفل شكل الأعداد وتخيله لا يعد ذكاء رياضياً لأنه لم يستخدم فى عقله الجزء الخاص بحل العمليات الحسابية فى المخ بالجانب الأيسر بل رفع وحرك الصورة فى الجانب الأيمن وقرأ الإجابة دون أن يقوم بعملية حسابية.
ويؤكد مسوّق الاعلان أن برنامج يوسي ماس خاضع لنظام الجودة العالمي (ISO) ، وهنا تتجلى مسؤولية جهاز التقييس والسيطرة النوعية بالتعاون مع وزارة التربية ووزارة الصحة للكشف عن هذا البرنامج وعن الشركة التي شرعت بتسويقه في السوق العراقية وعن صدقية خضوعه لنظام الجودة العالمي؟ فمن الأولى إدخاله ضمن مناهج التعليم اذا ما صدق الاعلان، فهو برنامج لا يحتاج الى أكثر من تدريب وبضعة (أباكسات)!! حتى نستطيع أن نجعل من كل طفل مشروعاً عبقرياً في علم الرياضيات! .. وبخلافه فان من المعيب السكوت على من يسرق أموال الناس ويبيع لهم الوهم، فهل نحن بحاجة لمن يصطف مع الاغراق السلعي الذي يأتي بنفايات السلع فيهدر ثروات البلاد ويسرق أموال المواطنين في وضح النهار؟ أفلا تكفي ظواهر الغش الصناعي والتجاري لنأتي بغش يعلب لنا الأوهام ويبيعنا التبجح ، أم ترانا بحاجة لمهارات سراق جدد يدعمون القائمين على سوق الفساد المالي ويطوّرون مهاراتهم ؟!