المنبرالحر

العلم والأخلاق الانسانية/ زاهر نصرت

لاشك ان العلم بشكل عام كان يقوم في السابق على تحقيق السعادة للإنسان فحينما كان يبحث في الطبيعة عن الاسرار الدفينة انما كان يندفع وراء قيمة أخلاقية محددة وهي كيفية استغلال الطبيعة لفائدته ولحياته والمجتمع الإنساني ككل ، لقد كتب " هنري بوانكاريه " كتابه عن قيمة العلم وناقش في مقدمته حقيقة أساسية اخذت اثارها اليوم بأبعاد لم تكن تخطر على بال احد حتى ولا " بوانكاريه " نفسه، هذه الحقيقة هي العلاقة بين الحقيقة الأخلاقية والحقيقة العلمية والتي اكد عليها في قوله ( فالحقيقة التي يبرهن عليها لا يمكن بأي وجه من الوجوه ان تقرب من الحقيقة الأخلاقية القائمة على الشعور ) على انه يؤكد على ان ( الحقيقة العلمية ليست مناقضة للحقيقة الأخلاقية فلكل من العلم والأخلاق ميدانه الخاص ، وهذان ميدانان يتلامسان ولكنهما لا يتداخلان ، احدى هاتين الحقيقتين تدلنا على الهدف الذي يجب ان نسعى اليه والأخرى بعد تحديد الهدف تعرفنا بالوسائل الموصلة اليه. انهما لا يمكن اذن ان تتناقضا لانهما لا تلتقيان ابداً ، فلا يمكن ان يوجد علم لا أخلاقي مثلما لا يمكن ان توجد اخلاق علمية الا اننا اذا كنا نخشى العلم فلانه قبل كل شيء لا يستطيع ان يمنحنا السعادة ) .
ان الغاية من بحث الانسان في فهم الطبيعة ومن ثم ترويضها هي لتسهيل الحصول على متطلبات الحياة اولاً ولجعل ثقل اتعاب الحياة اقل ثانياً ، وبالنتيجة فأن أي تطور في العلوم هو خطوة في سبيل سعادة الانسان كما ذكرته في بداية المقال . لقد كان الانسان القديم يحقق جميع اغراضه بواسطة قواه العضلية اما الان فان القوى العضلية ليست أساسية في معظم الاعمال وبإمكان الانسان ان يشغل آلة او مجموعة أجهزة او حتى معمل بكامله وهو جالس في مكانه دون ان يتحرك وهكذا نرى التطور الحاصل في سبيل راحة وسعادة البشر واما السفر وسرعة قطع المسافات فأصبحت من الأمور التي لا تثير الانتباه ، وهكذا لدينا الرؤيا الى اين ستصل بنا العلوم حيث لم يبق امامنا ما يبدو مستحيلاً ما عدا السفر بسرعة الضوء .
مع هذا التقدم الهائل في التكنولوجيا المعقدة جداً ارى ان الاخلاق البشرية لا تتماشى مع هذا التطور بل هي متأخرة جداً عنه وعلى نطاق الافراد تحديداً او على نطاق القوى الدولية المسيطرة او التي تشعر بالسيطرة من ناحية الافراد ، فأن الإنتاج العلمي اصبح يشكل وسيلة لدى المجرمين لتحقيق اغراضهم او للقتل والسطو وبالنسبة للحكومات القوية فأنها تحاول ان تعوق وتؤخر او حتى تهدم تطور العلوم والأبحاث العلمية عن شعوب العالم النامي ، وقد لا أجانب الحقيقة عندما أقول ان بعض حكومات العالم النامي ايضاً تنقصها الحكمة والدراية في معالجة قضايا شعوبها بحيث تقع فريسة الاضطهاد العلمي المخطط له مسبقاً لبقاء هذه الشعوب متأخرة واتكالية على انتاجات الدول الصناعية الكبرى من ناحية ، ومن ناحية أخرى فان الكثير من مسؤولي دول العالم النامي لا يرصدون للأبحاث العلمية والعلم ما يجب رصده في ميزانية الدولة وانما يبحثون عن البهرجة العلمية او الاستعراضية بدلاً من بناء العلم من الأساس .
ان محنة العلم الحديث تسير في قناتين ، الأولى ( البهرجة العلمية الاستعراضية ) في دول العالم النامي و ( بهرجة القوة ) عند الدول الكبرى . فالقناة الأولى لا تعكس الواقع العلمي في البلد ولكنها في اكثر الأحيان تكون مستوردة ولا تعتمد على قاعدة علمية واسعة ورسمياً يكون الصرف المالي عليها اكثر مما يحتاجه البلد لو عمل على تأسيس قاعدة علمية صلبة نافعة وهذا يقود بالتالي الى التبعية العلمية التي تتبعها دول ( بهرجة القوة ) ولسان حالها يقول " يا مدور عليك ادور " .
فلو صرفت الدول الكبرى على مكافحة الامراض المستعصية مقدار 10% من مجموع ميزانيات دفاعها لأمكنها بالتأكيد السيطرة على هذه الامراض ، بعض التقارير تشير ان من كل ثلاثة يتوفى واحد منهم بالسرطان في الولايات المتحدة الامريكية، وتقرير اخر يتحدث عن اجمل مدينة بريطانيا هي ادنبره عاصمة اسكتلندا فمرض الايدز فيها منتشر بنسبة 8:1 من مجموع سكانها ، وبينما ترى الدول الكبرى هذه الاحصائيات المرعبة لا تحرك مشاعرها الإنسانية حتى تجاه مواطنيها لتخليصهم من هذه الامراض القاتلة ونراها بعكس ذلك تطور اساطيلها البحرية والجوية لتهديد حكومات الشعوب الأخرى واذلالها ونهب خيراتها ... ان التبجح بالإنسانية والديمقراطية هاتين الكلمتين الساحرتين الجذابتين اللتين طالما سمعنا بهما وتمنينا لو عشناهما ما هو الا رياء ونفاق تستعملان للخداع وما نراه اليوم من الدول الكبرى المستغلة وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية لا تريد توفير الوضع السلمي في اية منطقة في العالم وبالذات في منطقتنا العربية وهي تدفع دولها لتبذير مواردها على السلاح وخلق مشاكل بين الدول للتشكيك في نوايا بعضها ضد بعضها الاخر كما بينه الماضي القريب من الاحداث في العراق وعدم استقراره لاحقاً وما يحدث في الوقت الحاضر للمنطقة العربية .
لقد كان العلم بحقائقه يبني قيمه وأهدافه باتجاه الانسان وكانت الثقة مطلقة بين العلم والأخلاق الا ان هذه الثقة فقدت مصداقيتها وطرحت تناقضاتها بشكل رئيسي حينما انفجرت القنابل الذرية في هيروشيما وناكازاكي ووقف العلماء مبهوتين امام قدرة العلم الكبيرة على تدمير الانسان عندما يفقد هذا العلم اخلاقه المبنية على الشعور الإنساني لا على الحقائق الموضوعية .