المنبرالحر

قبل اربعين عاما نشرت مقالتي الاولى هنا: النمر ليس من ورق! / عامر بدر حسون

عندما وقفت في ارشيف "طريق الشعب" باحثا عن مقالتي الاولى (نشرت في 6-10-1973) تذكرت وقفة الشعراء العرب على الاطلال، فهم اعتادوا بدء قصائدهم، "العصماء خصوصا"، بمحاكاة الاطلال واستنطاقها والتحسر على ايامها. لكنني وقبل ان اتصنّع الحكمة على طريقتهم، تذكرت سخرية "ابو نواس" اللاذعة منهم عندما قال:
"قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا ما ضرّ لو كان جلس"؟!
وعلى هذا فقد جلست ممتثلا وبدأت البحث.

كنت قد عدت من منفى امتد لاربعة وثلاثين عاما متصلة (غادرت العراق في 2-10-1978 وعدت في 1-1- 2012) وكانت المقالة خلطة من الفن والسياسة والتظاهر، غير المقصود، بالمعرفة العميقة! اقول التظاهر غير المقصود لان الفتى الذي كتبها كان في الثالثة والعشرين من العمر، وكان يؤمن بالفعل انه امتلك المعرفة كلها.. لقد كان يعتقد انه يحمل معه مسطرة قياس كل شيء: التاريخ والحاضر والمستقبل، الفنون والاداب والعلوم.. وكانت تلك المسطرة تتلخص في هذين الامرين: الصراع الطبقي والحتمية التاريخية!
كنت آخذ "الصراع الطبقي" باليمين وأطبّقه على الشيء فاصدر حكما قاطعا لايقبل النقاش، وعندما كنت أجد ثغرة لا أعرف كيف أسدها، كنت اتناول باليسار "الحتمية التاريخية" فيجلس كل شيء بمكانه!
ويبدو لي ان هذه هي قصة البشر: يبدأون حياتهم بالاعتقاد انهم يعرفون كل شيء، ثم ينتهون، في الكهولة والشيخوخة، الى حقيقة ان ذروة العلم والمعرفة الحقيقية هي قدرتهم على قول: لا أعرف!
ربما كانت الثورات والتحولات الكبرى في التاريخ من صنع اجيال من الشباب كانوا يؤمنون انهم يعرفون كل شيء، او يعرفون ما يكفي لتحريك عجلة التاريخ. وقد كنت، يومها، احاول الانتماء الى اولئك. واذا لم تعجبك حركة التاريخ اليوم او غدا فلربما كان السبب انها من صنع شبان كانوا يعتقدون انهم يعرفون كل شيء، وان في جيب كل منهم مسطرته الخاصة التي يقيس بها الامور.. مسطرته الخاصة وليست مسطرتك!
هذا النوع من المساطر خطر جدا اذا وقع بايدي من تنقصهم الخبرة والمعرفة، فهي تصبح مثل "سرير بروكست". وبروكست هذا هو قاطع طريق اسطوري، كان يقف في مدخل المدينة ولا يسمح لأحد بدخولها الا بعد ان يضعه على السرير، فان كان أطول من السرير قص أطرافه، وان كان أقصر مطّ جسمه ليصبح بطول السرير، لكن الفتى الذي كتب المقالة الاولى لم يكن يعرف الاسطورة ولا.. عبرتها.
كنت مأخوذا بضربة الحظ التي رافقت خطوتي الاولى ، ففي يوم نشر المقالة وقعت حرب السادس من اكتوبر 1973، وكان من الطبيعي ان يلجأ الناس لشراء الصحف بكثرة، فنفدت كل الصحف الصادرة في ذلك اليوم، مما يعني انني وصلت لعدد اكبر من القراء.. ثم ان اسمي الذي نشرت به المقالة كان يحيل الى اسم فنان معروف يومها، هو بدري حسون فريد، وأضيف الى الحظ هنا ان المقالة نُشرت باعتبارها المادة الرئيسة في الصفحة الاخيرة، وكان موضوعها يتعلق بمسلسل مشوق جدا هو مسلسل "الهارب". وهو عن طبيب، اسمه كامبل، يُتهم ظلما بقتل زوجته فيهرب ويبدأ البح? عن المجرم الحقيقي. وفي رحلة البحث نشاهد معه، اماكن وشخصيات امريكية في غاية الجمال في كل حلقة.
كان التلفزيون يومها قناة واحدة تبث بالاسود والابيض، وكان البث لست ساعات او ثمان في اليوم، على ابعد تقدير، ويعاد تقديم الحلقة مرتين في الاسبوع. وكان الجمهور منبهرا بالحياة التي يعرضها المسلسل: مغامرات وجميلات وحريات.. كانت تلك الصورة تتعارض مع معلوماتي "الرسمية" و "الاكيدة" عن اميركا الامبريالية، والتي كانت الصحف الرسمية والمعارضة على حد سواء تقدم لها صورة مختلفة: اميركا عدوة الشعوب، وهي بلاد قمع الحريات وسيطرة الاغنياء وسحق الفقراء، وفي كل يوم تقريبا كانت، في الاعلام، "احصائيات" تقول ان اكبر نسبة فقراء وجي?ع في العالم هي في امريكا، وان اكبر قمع للشعوب يتم فيها، وان الديمقراطية اكذوبة، والى آخر ما يليق بعدوة الشعوب!
فكيف اجمع بين معلوماتي "الرسمية" وما يقدمه المسلسل المشوق عن الحياة الامريكية، خصوصا وانه لايتطرق الى السياسة لا من قريب ولا من بعيد؟ ومن اين أمسكه لأقيسه بمسطرتي؟
المكتوب يقرأ من عنوانه كما يقال. ولهذا اكتفي بذكر العنوان الرئيس لمقالتي، وهو بالحرف الواحد: "كامبل الهارب من السياسة"!
البطل لا علاقة له بالسياسة، والمسلسل بوليسي لا مجال للسياسة فيه، لكنني اعتبرت ان هذه سياسة! فقد كانت شائعة بين ابناء جيلي "حكمة" تقول ان كل شيء سياسة. ومن هنا بدأت اتحدث عن استوديوهات هوليود التي تنتج افلاما ومسلسلات خاصة للتصدير للعالم الثالث وظيفتها تقديم صورة جميلة لاميركا! لم اكتب الامر بهذه الفظاظة بالطبع لكن هذا هو جوهره. لماذا تفعل اميركا هذا؟ بالطبع كي نعجب بها ونتأثر بابطالها فنقلدهم ونصبح اميركان في التفكير والسلوك والعياذ بالله! وحصّنت نفسي وقراء الجريدة عندما قلت ان هذا لاينطلي الا على انصاف ا?مثقفين، وواضح للقاريء انني يوم ذاك لم اكن استحق لقب ربع مثقف.. لكنني كنت جريئا أو وقحا لدرجة اتهام من يتأثر بالمسلسل ولا يوافقني على رأيي فيه بانه من انصاف المثقفين!
لقد فضحت هوليود واستوديوهاتها شر فضيحة! والجريدة كافأتني بوضع ما كتبت كمقالة رئيسة للصفحة، ولا غرابة في هذا، فالعالم كان يتكلم لغة مختلفة.. والحزب ومنظومة البلدان الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، والعالم الثالث عموما والاحزاب الوطنية والقومية والتقدمية جمعاء، كانت تفضل ان تقدم امريكا، من خلال فكرتها هي عنها وليس من خلال الواقع.. ولماذا اذهب بعيدا في الاعتذار عن جهلي بواقع امريكا وانا مجرد فتى صغير، وانسى ان صدام حسين نفسه كان اكثر جهلا مني بها؟ فهو بعد ان دخل معها الحرب الاولى في العام 1991 شاهدته?يضحك في التلفزيون وهو يقول ان احدهم اخبره ان الحزبين الرئيسيين في اميركا (الجمهوري والديمقراطي) اتخذا الفيل والحمار شعارا لهما! كان يتعجب كيف ان دولة شعار حزبها الحاكم هو الفيل وشعار حزبها المعارض هو الحمار يمكن ان تحلم بالانتصار على بلد عريق يقوده صدام حسين؟!
كان الزمن مختلفا ووسائل المعرفة كانت محدودة، ونصف الكرة الارضية كان ينظر للنصف الاخر بتلك النظرة القاصرة والغريبة، وكنا كجيل من الفتيان المتحمسين، نعتبر ان مقولة ماوتسي تونغ عن اميركا هي الصحيحة: اميركا ما هي الا نمر من ورق! وفي الحقيقة فان تلك المقولة لم تناقش يوما في الكتابة العربية وتركت لتموت وحدها بهدوء ودون وداع او اسف.
خارج الارشيف والجريدة لاحظت ان رسم تصور مسبق للعدو اسهل على الجميع من مواجهة صورته الحقيقية ومحاولة معرفته. والامر لايتعلق بامريكا التي تحتل مركز اقوى دولة في العالم اقتصاديا وعسكريا وعلميا، فقد وجدت ان اغلب من التقيتهم من السياسيين والمثقفين والاعلاميين، ناهيك عن الناس العاديين، يميلون الى تقزيم الاخر واتهامه بما يستحق وما لايستحق من التهم، ولم اجد من يقدم خصمه بصورته الواقعية. ففي اول منفاي كانت كتابتنا تركز على وصف صدام حسين، اول صعوده، بـ "الدكتاتور الصغير" وكان العرب يتساءلون: اذا كان ديكتاتورا صغيرا ?لى هذا الحد فلم لاتستطيعون اسقاطه؟
حتى المنفى لم نسمّه باسمه الحقيقي الا بعد سنوات، كنا نسميه "الخارج" او محطة نضالية او اي شيء من هذا القبيل، لكننا لم نذكر المنفى بالاسم الا بعد حين. ويوم كتبت، في الثمانينات، في مجلة "البديل" قائلا: علينا ان نعترف اننا في المنفى، واننا هزمنا وان اقرارنا بهزيمتنا قد يكون خطوة اولى في تحديد مرحلتنا القادمة ومهماتنا، شد على يدي عدد من الاصدقاء، فيما لامني اخرون لإضعافي معنويات المناضلين والقراء!
ان محاربتي، مثلا، لاقوى دولة في العالم امر يعلي من شاني أكثر مما لو حاربت نمرا من ورق! ومحاربتي لجبروت طاغية بمستوى صدام حسين يجعلني في مكانة افضل من محاربتي لديكتاتور صغير.. ولقد كان الفرسان القدامى يعلون من شان خصومهم قبل بدء النزال وينسبون اليهم كل انواع البطولات، وكان الخصم يرد بالمثل ويزيد.. وتلك طريقة تجلب الفخر للمنتصر لانه انتصر على من هو اقوى منه، وتحمي المهزوم من وطأة الهزيمة مادام قد هزم على يد فارس الفرسان.
في السياسة عندنا الامر يجري بالمقلوب، فخصومنا واعداؤنا ما هم الا نكرات وجبناء وعديمو الشان، اما نحن فابطال اشاوس، وبعد عقود واجيال من تلك اللغة لا نتساءل: لماذا لا ننتصر عليهم اذا كان الحال كما نقول؟!
انني وإذ اسخر من نفسي ومن معارف جيلي انذاك، انظر بعين الغبطة للاجيال الجديدة التي توفرت لها مصادر معرفة متنوعة، اتاحت لها رؤية الاشياء على حقيقتها. هذا امر في غاية الاهمية، وقد لايأتي بثماره سريعا، لكنه مثمرعلى المدى البعيد، وهذه "حتمية تاريخية" لاريب فيها!
ولن نعرف اهمية تسمية الاشياء بمسمياتها الا اذا نظر الكتاب لمجتمعهم وحياتهم السياسية والثقافية نظرة الطبيب لمريضه. ان مهمة الطبيب هي تنوير المريض بحقيقة مرضه، فعلى تشخيص المرض ومعرفة حقيقته يتحدد نوع العلاج.. واعتقد اننا ككتاب وصحفيين اذا لم نصارح قراءنا ومجتمعنا بما فيه من امراض وعلل سنكون الشركاء لتلك الامراض في القضاء عليه.. بل سنكون نحن المرض.
حمدا لله اننا، والبشرية جمعاء، تجاوزنا تلك المرحلة من الثقافة والكتابة، ولم نعد نخدع قراءنا بحقيقة التحديات التي تواجههم.. امل اننا صرنا نقدم لهم المعرفة المؤلمة بدلا من الاوهام اللذيذة والمخدرة.. ام اننا لم نفعل بعد؟!
يقال: لكل امريء من اسمه نصيب، ولا اعرف مقدار نصيبي من اسمي، لكنني متأكد ان لكل صحفي من عنوان مقالته الاولى نصيب، بدليل انني بدأت حياتي بالكتابة عن الهارب من السياسة فنالني من ذلك نصيب الهرب لاكثر من نصف عمري!
ولقد اردت، بعد اربعين عاما من نشر مقالتي الاولى، ان اشكر " طريق الشعب" المدرسة الصحفية التي تتلمذت على يد اساتذة الصحافة فيها، فعلّموني واكرموني بمعاملتي كزميل لهم.. (عملي الرسمي كان في جريدة "الفكر الجديد".. الشقيقة التي سبقت طريق الشعب في الصدور في السبعينات) لكنني وجدت نفسي منساقا الى نقد خطوات الفتى الذي انتمى للغة عصره السائدة انذاك. كان من الافضل ان اكتب عن ايام زمان وذكرياتها الطريفة لكن الفتى كان يريد ايصال صرخته بالقول:
يا جماعة! النمر الذي حدثتموني عنه لم يكن من ورق!