المنبرالحر

الفنان حين يكون إنسانا / طه رشيد

ورحل عنا الصوت الدافئ، صوت البصرة بنخيلها وشطها وشناشيلها، الصوت العراقي الصافي الذي لم يطأطئ رأسا، ولم يمجد مسؤولا، ولم ينشد لسلطة. انما غنى للوطن وللحبيبة، غنى للأرض والسلام. انه فنان الشعب فؤاد سالم، الذي اضطر لترك العراق في نهاية السبعينيات نتيجة السياسة القمعية للنظام السابق، وتحمل الغربة والمعاناة والتنقل من عاصمة لاخرى. وفي كل مدينة يصلها كان يمسك بعوده ويغني بحرقة للعراق، لقد قتله الشوق والحنين.كان فؤاد سالم فنانا مبدعا، عابرا للطوائف والاثنيات والاعراق، ولهذا احبه العراقيون من جهات الوطن الاربع.
لقد ناضل ضد النظام الدكتاتوري السابق بفنه وبالحانه وباغانيه. ورغم ان ذلك النظام منع تداول اسمه ونشاطه الفني، وسجن اغانيه، الا ان هذا لم يمنع ان تتحول اغنيته الشهيرة « ياعشكنه فرحت الطير اليرد لعشوشه عصاري» التي أداها مع الفنانة شوقية البصري، قبل ثلاثة عقود، الى ما يشبه «نشيدا وطنيا» يتردد على كل الالسن.
في النصف الاول من عام 1978 نظم في قاعة الشعب ببغداد مهرجان للاغنية، حضره طارق عزيز وزير الاعلام آنذاك. وحين اعلن عن اسم فؤاد سالم اشتعلت القاعة تصفيقا فغنى فؤاد لبغداد المحبة والتآخي والسلام، وحين انتهى وقف الجمهور يصفق حبا واحتراما لفؤاد. ولكن ما ان خرج فؤاد وانتهى التصفيق حتى قام معالي الوزير! وشتم الاغنية واصفا اياها بالسخيفة « هي ومن يصفق لها» وطلب من الحاضرين ان ينقلوا كلامه هذا «بكل ثورية»!
بعد ذلك لم يتأخر فؤاد في ترك الوطن، وقد تنقل مع رفاقه الشيوعيين واليساريين بين عواصم عديدة، وكانت آخرها دمشق التي ترك فيها انفاسه العطرة الاخيرة.
الان لا بد من تكريم فؤاد سالم كما يليق بالكبار من ابناء الشعب، واتمنى شخصياً تخصيص راتب مجزي لعائلته باعتباره مناضلا وفنانا كبيرا،وان ينحت له تمثال ليوضع في واجهة احد المعاهد الفنية، وان يطلق اسمه على احد الشوارع أو الساحات أو قاعات المسرح والموسيقى، وان تخصص جائزة فنية سنوية بإسمه لاحسن اغنية ، وان تحرص وزارة الثقافة على جمع نتاجه الفني، بما فيه اغانيه السياسية، وإعادة اصدارها ليتسنى للجيل الجديد والدارسين والمتذوقين الاطلاع عليه والاستفادة منه .
لو كان فؤاد سالم « مصريا « لجعلوا منه رمزا وطنيا. فمصر الكبيرة تقدر فنانينها وعلماءها ومثقفيها، فما بالنا نحن نهمل مبدعينا! وقد طالبنا مرارا ومنذ تداعي صحة فؤاد بالاهتمام الجاد بمسألة علاجه ونقله على حساب الدولة من دمشق التي انتصر عليها، للاسف، تجار الموت والحروب، ولكن دون جدوى.
فلنكرم فؤاد سالم بعد رحيله، لا ان ننساه او نتناساه، كما لف النسيان مبدعين آخرين رحلوا بصمت في الغربة، مثل كمال السيد وزينب ومنذر حلمي وفاروق اوهان وسهام حسين والهام حسين وآخرين كثر.