المنبرالحر

الأداء النفسي عند الفنانين/ زاهر نصرت

هناك فنان فهم الحياة حق الفهم وخبرها كل الخبرة ، ومع ذلك فهو يتذوقها بقدر محدود لا يتناسب وخبرته العميقة ولا يتفق وفهمه الأصيل ، فما هو الفارق بين طبيعة ( الفهم ) وطبيعة ( التذوق ) في حياة الفنانين .
لتوضيح هذا الفارق الفني بين الطبيعتين أقول : انك تفهم الشيء بعقلك وتتذوقه بشعورك ، يعني ان الفهم اداته الشعور الرهيف ... انهما طاقتان : طاقة عقلية وطاقة شعورية ، والذين قويت عندهم الطاقة الأولى وضعفت الثانية هم الذين تتوقد في وجودهم شعلة الفهم وتخبو او تضعف شعلة التذوق بالنسبة الى أي قيمة من قيم الفن واي معنى من معاني الحياة . ان هنالك مثلاً من ( يفهم ) قصيدة من الشعر ، يفهم فيها اللفظ والصورة ويفهم فيها الوزن والقافية ويفهمها اتجاهياً اذا طلبت اليه الشرح والتفسير . ومع هذا كله فهو لا يستطيع ان ( يتذوق ) فيها وحدة العمل الفني ولا إيجابية التركيب اللفظي ولا تماسك التجربة الشعورية ، وهي معروضة عرضاً تفصيلياً من خلال مضمون . وقل مثل ذلك عن الذي يفهم أصول النوتة الموسيقية للحن من الالحان ثم لا يتذوق جمال اللحن ولا يهتز لروعة الإيقاع ولا يتجاوب وتصويرية النغم .
ان فهم الحياة هو ان نفتح ( لمشاهدتها ) أبواب العقل ، اما تذوق الحياة فهو ان نفتح ( لتجاربها ) أبواب الشعور ... اننا ( نرقبها ) هناك تحت اشعاع الومضة الذهنية ولكننا ( نتلقاها ) هنا تحت تأثير الدوافع الوجدانية وعلى مدار هذه الكلمات نستطيع ان ننظر الى كل عمل يمت الى الفن بسبب من الأسباب .
هذه الكلمات هي معالم الطريق الى ( الأداء النفسي ) او الى هذه المحاولة المذهبية التي تحمل ذلك العنوان وهدفها ان تزن قيم الفن بميزان جديد سواء اكان الفن ممثلاً في قصة تحليلية ام في لوحة ام في مقطوعة موسيقية ام في قصيدة ، وسواء اكان الفهم او التذوق في كل اثر من هذه الاثار متعلقاً بموقف الفنان من مشاهد الحياة وتجارب النفس حين ينتج ، ام كان مرتبطاً بموقف الذين يحكمون على الفن ويقيمون له الميزان عن طريق الذهن او عن طريق الشعور .
ان الفن في جوهره ليس فهماً للحياة يقف بنا عند حد الرؤية المادية والاثارة العقلية ، حين تقوم هذه من تلك مقام النتيجة من المقدمة او مقام النهاية من البداية ، وانما هو – الى جانب هذا – حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يتبعها انفعال ، انفعال يحدث تلك المشاركة الوجدانية بين منتج الفن وبين متذوق الفن .
اريد ان أقول ان اللقطة البصرية في الإنتاج الفني حين يعقب عليها العقل وحده ليست كل شيء مهما بلغت الطاقة الذهنية في التفكير والتعبير من صور وآفاق وانما العبرة هنا باللقطة النفسية التي تفتح نوافذ الحس ثم تنحدر الى لب الشعور وتستقر اخر الامر في أعماق الذات الشاعرة في الطبيعة الإنسانية .