المنبرالحر

فؤاد سالم فنان اصيل في زمن عليل!/ رزاق عبود

"ياسوار الذهب لا تعذب المعصم، معصمهه رقيق وخاف يتألم"! كان هذا مطلع الاغنية، التي نقلت الشاب البصري الوسيم الخجول، من مطرب هاو، الى صف عمالقة مطربي السبعينات حسين نعمة، فاضل عواد، ياس خضر، وغيرهم. صار صوته الشجي يملأ الاسماع في الاسواق، والمقاهي، والنوادي، وتردده حناجر العشاق. حنجرة بصرية مازجت المقام العراقي(البغدادي) مع ما يسمى المقام البصري بايقاعات خليجية (افريقية) تميزت بها جلسات (گعدات) الطرب الشعبي(الخشابة)!
رحلة طويلة لطالب معهد الفنون الجميلة من حفلات الاعراس، والمناسبات الاجتماعية، والوطنية، وخشبة نادي الاتحاد، والقاعة المركزية في العشار، وسفرات المدارس، الى مايكروفونات الاذاعة العراقية، وصوت الجماهير، واذاعة القوات المسلحة، وقاعات بغداد الواسعة، وصالوناتها الراقية، ومسارحها المشهورة. حنجرة ذهبية نادرة تولاها، ورعاها، ورباها، وتبناها الاستاذين حميد البصري، وطالب غالي في البصرة، ثم قدمها للعراقيين عامة الاستاذ سالم حسين عازف القانون الشهير، الذي لحن له اغنية "سوار الذهب" التي نقلته الى الافاق. اقترح سالم حسين اسم فؤاد بدل فالح، واختار فؤاد اسم سالم تعبير عن امتنانه لاستاذيه سالم حسين، وسالم شكر. برز نجم الشاب في اول اوبريتات غنائية في العراق بيادر خير، والمطرقة، ثم تبعهما نيران السلف، ممثلا، ومؤديا، مبدعا. كانت قدرته الايدائية عجيبة، خاصة انتقاله بين الاطوار، واتقانه السلم الموسيقي عن دراسة، وخبرة، وتجربة، وموهبة. كان قراره هادئا عميقا دون حشرجة، ولائه عالية دون نشاز. مع قوة صوت، وامكانية حنجرة كان بامكانها ان تطرب الحضور خلال ليلة كاملة، دون ان يشعر احد ان فؤاد تعب، او بح صوته. هذه كانت احدى ميزاته. نادرا ما اخذ استراحة، او فواصل. مما ميزه ايضا انه كان شاعرا مرهفا، وملما بالتراث الشعبي العراقي غناءا، ونصا. كتب كلمات، ولحن بعض اغانيه.
سلطت الاضواء على الشاب الخلوق، والمطرب المثقف، والسياسي الملتزم. دون غرور، ولا زهو فارغ رغم صغر سنه. عرف البصريون "فالح حسن" مطربا هاويا مقلدا المطرب الكبير، ومثله الاعلى ناظم الغزالي. من على خشبة مسرح نادي الاتحاد الرياضي، ثم نادي الفنون، ونادي التعارف، والحفلات الخاصة. الجمهور فی البصره عرفه باسم فالح بريچ، ربيب العائلة الغنية، التي عارضت هواياته، وميوله الفنية، ونشاطاته التقافية، وقاطعته في البداية بسبب ميوله السياسية. كانت علاقاته الاجتماعية، وافكار الاصدقاء، والمحيطين به، تجعله قريبا من الجماهير الشعبية. فاختار عن قناعة، ودون تردد الانحياز الى قضايا الكادحين، وصار صوتهم الفني الى جانب الفنان جعفر حسن.
تعرض للمضايقات، والاغراءات، والاستدعاءات، وحتى الخيانات، والاعتقال، والضرب، لكنه لم يستسلم، ولم يخضع. حمل "قلبه على كفه" واضطر لمغادرة العراق بعد ان ضاقت عليه السبل، مثل مئات المثقفين، والمبدعين، والوف السياسيين. صرخ بوجه مضطهديه، وهو يصور تجربة مناضل مع التعذيب، متحديا جلاده، مغنيا في اليمن الديمقراطي:
(گلي من انطلعك شتسوي، گتله ارجع للحزب شيوعي)!
غنى لحزبه، لعماله، وفلاحيه، وطلبته، وشبابه، ونسائه، للعشاق، والوطن، وكل اهل وطنه. التاع، وهو يصرخ مع السياب، والحان طالب غالي: "ياعراق، ياعراق". ظل يبكي العراق في غربته، ويدافع عنه. دفع جل ريع حفلاته تبرعا للحزب، والانصار، والمحتاجين من الاصدقاء، والرفاق. غنى في اذاعات المعارضة، وفي احتفالاتها، ومهرجاناتها. ولما جاءت المعارضة للسلطة لم تعيد اليه، ولو وظيفته، ولم تنقذه من غربته. لم تمنحه بغداد، واربيل، ولا السليمانية ما منحهم من تضامنه، ودمه، وغناه للانصار الابطال. وللجماهير بعد انتفاضة اذار، وانسحاب عسكر، وادارة صدام، متحديا المخاطر المحتملة.
ظل غريبا، وظلت القنابل تتساقط، والانفجارات تتصاعد قرب المستشفى، التي يرقد فيها في دمشق دون ان تفتح له مستشفيات البصرة، او بغداد، او اربيل، او السليمانية ابوابها له. لم يسر خلف جنازته اي من القادة، الذين يسمون انفسهم وطنيين، او قوميين، او تقدميين، رغم انهم اطلقوا عليه لقب "فنان الشعب" وهو لقب استحقه عن جدارة، وفخر، دون منه، او منحة من احد. مات غريبا مثل السياب في صورة ماساوية معبرة. مات العملاقان بعيدان عن وطنهما. عملاق الشعر، وعملاق الغناء، قضيا في المهجر، ولم يرافق نعشيهما غير ارملتيهما. لم تطلق لهما المدافع تحية المناضل، ولم تنكس الاعلام حزنا، ولم يقف حرس الشرف تكريما لهما، ولم يلف نعشيهما بعلم الوطن، الذي كانا اكثر، واعمق من تغنى به، وله. سيبقى الفان فؤاد سالم غريبا، حتى وهو في قبره، شاهدا على جحود الزمن الردئ. حتى نحن الذين احببناه، لم نقدم له سوى الاعجاب، والمراثي.
لازلت اذكره شابا يافعا بعد نجاحه اللامع يقف كطفل برئ امام سينما اطلس في وسط العشار، وسيما، انيقا، وعيون الشباب، والشابات تلتهم محياه، وهو يرد بخجل، واحترام، وتواضع على التحيات، ويصافح الجميع. يرتدي قميصا احمرا قاصدا، موضحا، معلنا انحيازه، الفكري بثبات.
سنبقى نردد مع صوته الخالد اغنيته التي سببت له المشاكل مع السلطات والرقابة وهو يصدح:
"بصرتنه ما عذبت محب واحنه العشك عذبنه"
"شط العرب يا بو بلم يعرفنه وموالفنه"
لو عاد اليوم لغناها "واحنه الوكت عذبنه"
مثلما تركنا نبكي عليه، بحسرة: "مو بدينه نودع عيون الحبايب مو بدينه"