فضاءات

التنظيم العسكري .. كذبة افتراها النظام المقبور لأعدام الشيوعيين / منعم جابر

ما ان اعلنت الجبهة الوطنية والقومية التقدمية عام 1973 حتى بدأت ثمار هذا التحالف تتضح وانتعشت الحياة السياسية وتطورت الفنون والاداب والرياضة وتحول الشارع العراقي يساراً واضحاً وانجازات تقدمية اثارت خوف ورعب القوى الرجعية والمشبوهة. فلو استذكرنا تظاهرة ليلة 16- 17 تموز عام 1973 والحشود الكبيرة التي ضاقت بها الشوارع وازدحم ملعب الشعب الدولي بعشرات الآلاف والنوعيات الرائعة من الفنانين والادباء والرياضيين وكل مبدعي الوطن. نعم لقد ارعبت تلك الظاهرة واخافت النظام الذي كان يسعى من اقامة الجبهة الوطنية احتواء الشيوعيين وتحجيم قدرهم وقدرتهم والضغط عليهم لتحويلهم الى تابع ذليل لكن المؤشرات كانت شيئاً اخر، عليه اصبح النظام امام الاستسلام للديمقراطية وقبولها والعيش معها وهذا يعني لحزب ذوي نهج فاشي امراً غير مقبول وخطراً على مستقبله او ضرب القوى الديمقراطية والشيوعيين والزحف على جماهيرهم في كل زوايا المجتمع ويبدو ان الطاغية اختار الطريق الثاني وكانت كذبة التنظيم العسكري والنشاطات غير المشروعة فكان.. ماكان.

بداية مبكرة لسياسة ظالمة!

بعد توقيع اتفاقية الجبهة الوطنية في تموز 1973 انتعش الشارع العراقي ونشط الابداع الادبي والشعري والثقافي لكن هذا لم يعجب السلطة البعثية فقد كانت تمارس سياسة الطرد من الجيش بعد الحبس لأشهر حسب القانون العسكري النافذ 131لقانون العقوبات العسكرية لكنها وجدته لا يجدي نفعاً فأصدر قوانين جديدة اكدت على تحريم التنظيم العسكري والحكم بالاعدام لمن يخالف. ومع مطلع عام 1974 بدأت الفاشية تكشر عن انيابها حيث جرت محاكمة احد الشيوعيين من العسكريين وصدر الحكم بأعدامه! وخلال الفترة الاولى كانت المحاسبة تشمل العسكريين فقط لكن عام 1975 شهد تحولاً نوعياً في سياسة البعث ويبدو ان المنهج الصدامي كان يخطط للتصعيد للحد من نشاط الشيوعيين والديمقراطية، وتصاعدت الحملة على بعض العسكريين المتطوعين سابقاً وشملت الملتحقين بالخدمة الالزامية من خريجي الكليات وعموم الشباب العراقي. وبدأت اعداد المعتقلين بالتزايد وتوسعت لتشمل المدنيين ممن لهم علاقات صداقة او معرفة مع العسكريين المعتقلين وتنوعت الاحكام مابين العسكري ومسؤوله "الافتراضي" العسكري بالاعدام والمدني من عشر سنوات الى السجن المؤبد! ثمَ تطورت الى الاعدام للاثنين وربما توسعت الدائرة لتشمل عدداً أكبر!! وسأحاول ان اتذكر بعض الجماعات من رفاقنا الشيوعيين واصدقائهم والمحسوبين عليهم. وليعذرني من نسيته فأني كثير النسيان آملاً تعاون الاخرين من تذكر الاسماء والابطال ممن كانوا ضحايا البعث وحكامه الظالمين.

اللاعب الدولي بشار والقائد السياسي كمال

كما تحدثنا في بداية الموضوع سأحاول ان اكتب عن ابرز المجموعات التي تعرضت للاعتقال والسجن والاعدام وكما ذكرت فأن عام 1975، كان عاماً انتقالياً وبداية مأساة العراقيين، ففي مطلع العام المذكور اعتقل الرياضيون حسين السوداني وصباح التركماني وسرحان بنداوي الذين كانوا يلعبون لفريق كلية الشرطة وحكم على الثلاثة بسنة سجن وطرد من السلك! واستمرت هذه الحملة لكنها اشتدت في النصف الثاني من العام المذكور حيث اعتقل نجم المنتخب الوطني ولاعب اليات الشرطة "المفوض" بشار رشيد في ايلول 1975، وبعده بأيام اعتقل القائد السياسي سكرتير اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي كمال شاكر واحيلوا الى "مسلخ الثورة" محكمة الثورة وصدر قرار بالاعدام على الاثنين! وبعدها جرت عمليات اعتقال شرسة ضد الرياضيين وبدأت بلاعبي الشرطة ابراهيم واللعيبي فرحان وجبار قاسم وحسين شوابي وهؤلاء نخبة من نجوم الرياضة ولاعبيها وقد صدرت بحقهم احكام متنوعة حيث اعدم البطل العيبي فرحان وحكم على جبار قاسم وحسين شوابي وسعدون مطشر بالسجن مدى الحياة، علماً ان هؤلاء كانوا شباباً رياضياً ليس له من السياسة شيء ومع تقدم الايام بدأت الاعتقالات تتوسع لتشمل أضافة للعسكريين نخبة من المدنيين وبذات التهمة وسأحاول ان اتذكر بعض المجموعات وحكاياتها.

حكاية جماعة البصرة !

أول الحكايات عن جماعة البصرة حيث اعتقل المناضل النائب الضابط ليلو صبيح الذي كانت له علاقات بالحزب الشيوعي منذ نهاية الستينيات اي قبل عقد اتفاق الجبهة الوطنية وقد اخبرني ابو ميثاق: بأنه قطع العلاقة بالحزب حسب توجيهات مركزية بسبب اتفاق الجبهة وكان ضمن مجموعة البصرة الطالب الجامعي صباح شياع كان مثالاً للشيوعي الملتزم الذي وقف موقفاً مبدئياً بالدفاع عن حزبه ورفاقه ونفسه في المحكمة وقد ضمت مجموعة البصرة اكثر من ستة اشخاص عسكريين اما البقية من المدنيين طلاباً وموظفين في الميناء منهم نعيم وكامل وقد صدر حكم الاعدام بحق النائب الضابط ليلو صبيح وصباح شياع اما كامل ونعيم فقد تم الحكم عليهما بالسجن المؤبد وكان معنا جماعة الديوانية وهم ابو واقد وصميدح وحامد وكريم وهم شرطيان ومعلم وموظف بمصلحة نقل الركاب وتم الحكم على الاربعة بالاعدام علماً ان الشرطيين كانا يتعاطفان مع الحزب وليس لهما علاقة تنظيمية.

نجوم فريقي السكك والبريد !

شعر البعث بالحيرة ويدور في اذهانهم السؤال؛ لماذا يذهب نجوم الرياضة وكرة القدم للتعاطف مع الشيوعيين وينتمون اليهم. هناك تحركت عناصرهم وشخصت بعض الفرق ونجومها فكان فريقا السكك والبريد اللذان يلعبان في الدوري العراقي الممتاز حيث تم اعتقال لاعبي السكك كاظم خلف وجبار خزعل وموسى محسن وعادل كاطع اضافة الى لاعب البريد كاتب هذه السطور والرفيق الموظف في مصرف الرافدين عبد الحسين الصراف وكان اللاعبان موسى وعادل هما شرطة ضمن فريق السكك والباقي مدنيون وليس لهم علاقة بالعسكرية، لكن محققي الامن تعاملوا معنا بشدة وقساوة ليس لها مثيل رغم اننا مدنيون وليس لنا علاقة بالجيش، لكن لحكومة البعث موقف مبيت ضد القوى الديمقراطية واحيل الجميع الى "مسلخ الثورة" ليحكم على نجوم الرياضة بالسجن المؤبد بعد ان تأكدت المحكمة بأن الحجز القانوني ضعيف وان محامي المحكمة جاسم البدري طلب من المحكمة اطلاق سراح جميع المتهمين لانهم لايرتبطون بعلاقات حزبية وانما هم أعضاء في أتحاد الشبيبة والذي كان يومها قد جمد عمله بالاتفاق مع الحزب الشيوعي! ولكن كما قلنا ان القرارات تصدر وفق منهج وسياسة مرسومة تؤدي الى حرق كل شيء!

المناضل عبيد الشطب والصمود البطولي

عبيد الشطب فلاح شيوعي تجاوز الستين من عمره محبوب في قريته وبين فلاحيها ارتبط بالحزب منذ الخمسينيات درس في احدى الدورات الحزبية في بلغاريا. ضايقه البعثيون وحاولوا بكل أساليبهم استمالته لكنه كان مبدئياً رافضاً لسياساتهم. هنا عمل اعوان النظام على الايقاع بأحد شرطة المنطقة المدعو ناصر حسين وحاولوا اقناعه بأن يتهم عبيد الشطب بكسبه الى صفوف الحزب الشيوعي لكن عبيد ظل صامداً قال لضابط التحقيق: عمي هذا ناصر شرطي واحنا عدنا جبهة وياكم وماكو عمل داخل القوات المسلحة! لكنهم لم يسمعوا واحيل عبيد الشطب وناصر حسين الى "مسلخ الثورة" صدر الحكم عليه بالسجن المؤبد وكان ضحية جديدة من ضحايا البعث الصدامي.
فارس وسعد والاستماع لعصافير الاذاعة!

وبينما نحن في معتقل الامن العام حتى دخل علينا ذات يوم شابان صغيران لم يبلغا العشرين بعد! واتضح انهما من أبناء قضاء المحمودية فارس حمد وصديقه سعد كربول وحكايتهم اغرب من الخيال:
فارس شرطي أمن يعمل في القيود السرية لدائرة الامن العام! وهو موقع خطير حساس وسعد طالب ثانوية وكان هذان الصديقان يحبان الاستماع الى صوت فيروز والى ام كلثوم والموسيقى في بعض الايام يسهران لسماع كلمات آخر الليل والعصافير في الاذاعة العراقية عند الصباح الباكر او يحبان سماع الشعر والامثال والكلمات الرومانسية. هنا أعتقد بعثيو المحمودية ان فارس وسعد شيوعيان لانهما يحبان الموسيقى وبأسلوب التحقيق الوحشي وتخلصا من قساوة التعذيب اعترفا بأنهما شيوعيان واحيلا الى "مسلخ الثورة" وبما أنهم صغيران احالهما الحاكم الى الطب العدلي للتأكد من ان عمرهما تجاوز العقد الثاني وعند وصلهم الى الطب العدلي وجدهم الطبيب صغاراً جداً وتعاطف معهم لانهم حكوا له القصة فأجاب بأنهم دون العشرين! وهنا استبدل حكمهما من الاعدام الى السجن المؤبد وهكذا تخلص فارس وسعد من حبل المشنقة وشهدوا نهاية الطاغية.

أحكام قراقوش بحق الابرياء

لقد كانت سلسلة من احكام الاعدام والسجن المؤبد والمؤقت قد طالت العشرات من الابرياء ومن هؤلاء عريف ابو خولة وبصحبته الشاعر المعروف كريم العراقي وطالت فترة اعتقالهم لاكثر من سنة ونعرض ثلاث مدنيين هم نوري وانور وخضير علماً ان الثلاثة كانوا مدنيين لكن المحقق قال لهم: الم تكونوا عسكريين؟ قالوا: بلى لقد كنا شيوعيين ايامها! وفعلاً حكما لمدة ثلاث سنوات. واحيل غياث وناصر حسين وسعد الى المحاكمة بعد توقيف لاكثر من عام. وكان البعض من المتطوعيين يرغبون بفسخ عقود تطوعهم فتفرقوا كأنهم شيوعيون مثلاً جندي اول من إهالي البصرة وجدوا تحت وسادته جريدة طريق الشعب وحكم سنتين! والعريف خميس احتفظ بكتاب "ما العمل" لـ لينين، وكان يريد فسخ تعاقده وكانت الاحكام تصدر بالجملة وبدون تمحيض اما رئيس العرفاء في سلك الشرطة بلاسم فكان يعمل في الامن ايام سيء الصيت ناظم كزار واراد ان يفسخ عقده فقال للبعض بأنه شيوعي وقد ساهم ببناء قبر فهد مؤسس الحزب الشيوعي ولكنه لا يعرف اين يقع قبر الرفيق فهد وقد اعترف على صديقه جبار عاتي الذي قال للمحقق: انا لا اعرف فهد لم اذهب لقبره ولكني سمعت بشخص اسمه فهد الميرة رئيس اتحاد كرة القدم! تصوروا هكذا جمعوا اشخاصاً وافتروا عليهم ونسبوا لهم انتماء هم بعيدون عنه.

جرعة الاعدام يومي "17و18 مارس 1978"

وقد توج النظام الصدامي مواقفه المعادية للحزب الشيوعي والقوى الوطنية والديمقراطية ومن اجل قطع طريق التحالف وشن الحرب المباشرة اصدر النظام المقبور امراً بتنفيذ احكام الاعدام بحق اكثر من 22 مواطناً عراقياً مخلصاً بتهمة اقامة نشاطات ممنوعة داخل صفوف القوات المسلحة، فعلاً نفذت الاحكام يومي 17 و18مارس رغم الجهود والمحاولات لتنهي النظام عن القيام بذلك، إلا ان النظام كان مقتنعاً بمنهجه المعادي للشيوعيين والديمقراطيين فأرسل وجبتي مناضلين وشباب مخلصين لوطنهم الى ساحات الموت هنا اذكر منهم بشار رشيد وصباح شياع وليلو صبيح وصميدح خديم وعبد الكريم وحامد وابو واثق وشاكر ورحمن الفيلي وملازم اول عامر وسهيل شرهان وخميس.