فضاءات

بعد 50 عاماً على الجريمة: إنصافاً لشهداء "تلكيف" وعوائلهم / إعداد: كمـال يلدو

تمر الأيام والأعوام، وتخضّر أشجار، بينما تشيخ أخرى، تنمو مدن وتختفي مدن، ويسلك الماء في مجراه ناحتا ورائه رموزا وحكايات عن أراض قطعها ومدنا زارها. هكذا هي دورة الحياة وذكرياتها، حدث مار وحدث باق، جرح يندمل وجرح نازف، وقد لا تكون للحكاية ضجيجا عارما ان كانت قد أتت على دار أو مدرسة أو قرية أو شارع عام، فكثيرا منها قابل للتعويض، إلا الإنسان! هذا الذي قال عنه كارل ماركس يوما انه "أثمن رأسمال". وفي تقويمنا الحالي، وبمرور الثاني من تموز للعام 2013 يكون قد انقضى 50 عاما بالتمام والكمال على ذلك الثلاثاء الكئيب من عام 1963 وبالذات في مدينة "تلكيف" التابعة للواء الموصل (محافظة نينوى) حاليا.
في تلك الصبيحة، كان على سكان البلدة، رجالا ونساء، شيبا وشبابا، من كل الأعمار، ان يحضروا احد أعراس (الحرس القومي) الأكثر دموية في تأريخها، ألا وهو إعدام 6 من خيرة شبابها، في ساحة المدينة الرئيسية وأمام أنظار أهاليهم. لا بل ان المشهد، وبغية إشباع سادية القائمين عليه كان يجب على أهالي الضحايا ان يصفقوا ويلعنوا الشهداء، هكذا وهم أحياء يقادون للمشانق أمام أنظار الكل. مشهد يصعب على الذاكرة إركانه جانبا، لأنه سيؤرخ لاحقا لمسيرة شاقة كان على أهالي (تلكيف) دفع فاتورتها من خلال الأهانات أو الإذلال أو القمع والاعتقالات وحتى التشريد ولاحقا اختيار الغربة ملاذا من تلك اللعنة.
تعود بنا الأحداث الى آذار من العام 1959 حين قاد العقيد عبد الوهاب الشواف مؤامرة للإطاحة بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم منطلقا من محافظة الموصل كبداية. وحينما توجه قاسم وقادة الثورة معه ووسائل الأعلام للجماهير في حماية الثورة والانقضاض على الانقلابيين، فقد كان لمدينة "تلكيف"، والوطنيين من أبنائها - سوية مع مدن ومحافظات أخرى - دورا كبيرا في تحشيد المواطنين وضرب طوق امني حول الموصل، ليحصلوا بعد ذلك على وسام الكره والحقد من أعداء ثورة 14 تموز والبعثيين والقوميين والإقطاع الذين تضرروا من قوانين الثورة. هذا الغليان الشعبي، وفشل حركة الشواف كان بمثابة بركان صعب السيطرة عليه، ليعيد تكرار أخطاء تحملها الوطنيون الشرفاء وقادة ثورة تموز أيضا، تمثلت أما بالعفوية وترك زمام المبادرة بيد العامة (الأغلبية)، أو من خلال اندساس أعداء الثورة وقيامهم بجرائم احتسبت على الثورة لاحقا.

في يوم 9 آذار من عام 1959، كان راديو الجمهورية العراقية يبث بيانات تشجيعية للمواطنين يطالبهم بدحر حركة الشواف التي شارفت على نهايتها، ويطالب بالاقتصاص من الذين أيدوا المؤامرة، من أشخاص وعسكريين وقادة عشائر. صادف ان مر في مدينة تلكيف الحاكم امجد المفتي ومرافقه عمر الشعار، وهم من أهل الموصل وكانوا افتراضا محسوبين على ملاك حركة الشواف، وتنفيسا عن احتقان قديم لأهالي تلكيف مع السيد المفتي، فقد حاصر العديد من شبان البلدة سيارتهم، مما اضطره للجوء الى مركز شرطة المدينة وطلب حمايتهم من الجموع الغاضبة. ولم تنفع دعوات التهدئة، بل دوى عاليا صوت الانتقام والثأر، فما كان من مدير المركز إلا ان دبّر عملية تهريبهم خلسة عبر الطريق الترابي الذي يربط "تلكيف" بالموصل، وهنا حدث ما لم يكن في البال. الرواية الأولى تقول: ان سيارتهم تعطلت في الطريق الترابي، فوصل إليهم بعض المحتجين، والرواية الثانية تقول: أنهم أوقفوا من قبل سيارة أخرى ترجل منها بعض الشبان الذين انقضوا على المفتي والشاعر وقتلوهم ومثلوا بجثثهم ثم احرقوا السيارة ولاذوا بالفرار. هكذا تمت الجريمة.
كان على السلطات الرسمية مطالبة بالكشف وإلقاء القبض على (الجناة) أو (القتلة)، فكانت عملية الانتقام من ابرز القادة السياسيين والوطنيين في المدينة والذين القي القبض عليهم في أيلول من العام 59، فقدموا للمحاكمة وصدرت بحقهم أحكام بالإعدام شنقا حتى الموت بتهمة قتل السيدين المفتي والشعار، وهم كل من : ((1- إبراهيم داوود – معلم - من مواليد 1930 / 2- كوركيس داوود- سائق سيارة- من مواليد 1928 /3- بحـي دويا جربوع - قصاب- من مواليد 1940 / 4- بطرس زيا بـزي - عامل في مقالع الحجر- من مواليد 1930 / 5- حنا مايس –قديشا- فــلاح - من مواليد 1925 /6- ميخائيل ججو شنكو- معلم- من مواليد 1937)). أما الاثنان الآخران فكانا كل من : بحـي بـزّي، وسالم جميل شقيق الشهيدين إبراهيم وكوركيس، حيث كانت أعمارهما اقل من سن 18 إذ خففت محكوميتهما الى 15 عاما، ثم أفرج عنهما بعد سنتين وأكثر في المعتقل.

منذ الأيام الأولى للحادثة وما تلاها من تداعيات، اختلف أهالي "تلكيف" حولها اختلافا عموديا يصل أحيانا الى حد التعصب. فقوم يقول أنهم ضحايا وآخر يقول أنهم شقاة، البعض يحملهم تبعات تطرفهم السياسي والآخر يحمّل الطرف الآخر (المفتي والشعار) تبعات الأهانات الدائمة لأبناء تلكيف، قسم يعتز بهم كأناس وطنيين قضوا في قضية لفقت لهم تلفيقا، والقسم الآخر يعتقد أنهم استحقوا ما جنته أياديهم، فهم عرضوا تلكيف لأخطار الأهانات والاستباحة والتمييز العنصري، مما حدى بمعظم أهاليها الى هجرتها والنزوح للمحافظات العراقية الأخرى، لا بل حتى لمغادرة العراق وسكن الغربة. لكن ومهما تكن وجهات النظر تلك (مع او ضد)، فأنها تبقى محترمة حينما تجتمع في فضاء عادل ومنصف ويعطي كل ذي حق حقه. فلا (امجد المفتي وعمر الشعار) كانا يستحقان هذا القتل الشنيع على يد مجموعة من المتهورين، ولا تلبيس الجريمة لهذه المجموعة وتعريضهم لشتى أنواع التعذيب والبطش على مدى 4 سنين ومن ثم تنفيذ حكم الإعدام بهم والانتقام من أهاليهم ومن ثم الانتقام من أهالي القضاء لاحقا كان منصفا، ان لم أقل انه كان تطبيقا للانتقام الجماعي لجريمة قتل المفتي ومساعده. أما الأمر الآخر فيما يتعلق بهذه الحادثة وتبعاتها وهي عملية الخوض في السياسة، فما زالت بعض الأصوات تداعي بالتخلي عنها وتركها للسياسيين، نازعين عنهم حق مشروع كفلته القوانين والدساتير، حتى وإن لم يكن موجودا اليوم، فسيأتي اليوم الذي يمارسه كل أبناء الوطن، إذ لابد من بداية. ولو أردت الغور أكثر في هذا الموضوع فيطرح السؤال نفسه بإلحاح: ما هيّ مقومات الآخر حتى أتنازل بالسياسة له؟ ها هي الخارطة السياسية أمام الكل، ولتكشف الأوراق وليعلم الجميع، عن من خان الوطن أو باعه للغريب أو ورّطه في حروب كارثية، عن من يسرق الوطن في النهار أو يريد تقسيمه الى قطع وكانتونات، هل هؤلاء هم من نأتمن لهم، أم من حقنا، نحن كما لغيرنا ان نمارس السياسة ونبقي أيادينا نظيفة !
ومما لاشك فيه، وأمر لا جدال حوله، بأن هذه الحادثة قد وضعت اسم "تلكيف" على خارطة السياسة العراقية المتقلبة سيما وأن هناك عوامل كثيرة تضافرت لذلك، ولعل أبرزها: ان تلكيف قضاء ذو أغلبية مسيحية يعود إداريا الى لواء الموصل ذو الأغلبية السنية، وذات التوجه (على العموم) القومي والذي لم يتفق مع ثورة قاسم أو نشاط وجماهيرية الحزب الشيوعي. وثانيا، كانت "تلكيف" من المدن المفاجئة للكثيرين في مستوى تنظيمها الحزبي أو المهني وتأييدها الحار لثورة تموز وقاسم وللشيوعيين، مما مهد لها ان تكون في طليعة القرى والقصبات الشمالية ذات الغالبية المسيحية ونموذجا قياديا لها. لا بل ان هذا الأمر انعكس (سلبا أو إيجابا) لاحقا في تسمية كل المسيحيين، ومن شتى القرى والقصبات ب "التلكيفي"، أما تيمنا بما امتلكته هذه المدينة من شهرة، أو تسهيلا لعملية الاقتصاص أو الأهانة المتعمدة. لقد تقلدت مدن عراقية كثيرة شهرتها بالعمل السياسي الوطني أو الرجعي، في مقاومة المحتل أو الانقضاض على الثوار والوطنيين، في تخريج القتلة والمجرمين أو المناضلين والأبطال، لكن عوامل تاريخية ومذهبية وقفت بالمرصاد في تقلد "تلكيف" سمعتها الوطنية في حماية الثورة أو محاربة قوى الردة في الموصل. أما لمن تسعفهم الذاكرة فلعل التذكير بالثمن الباهظ الذي دفعته المدينة وأهاليها قد ينفع لمن يهمهم إنصاف الناس الوطنيين، تأتي في المقدمة منها: حالة الترقب والهلع بعد جريمة اغتيال المفتي والشعار، وتعرض الكثيرين للاعتقال أو الضرب. والمشهد الثاني كان عرس الدم البعثي في 2 تموز 1963. وثالثا، كانت حملة التشهير والانتقام اثر قيام (منير روفا) باللجوء الى إسرائيل مع طائرته. ورابعا، كان عرس الدم البعثي بصيغته المستحدثة عام 1969 بإعدام مجموعة من أبناء تلكيف والقرى الأخرى فيما سمي آنذاك بـ (فرق التجسس لإسرائيل).
كان من الممكن لهذه الذاكرة ان تستريح وتنسى وأن تجعل من الماضي ماضيا، لكن استحقاقات الحياة تطالب بالأنصاف، تطالب بكشف الحقائق للناس، وأن يعي المواطن – أيا كان – بأن ثمن الموقف السياسي الوطني يجب ان لا يكون قتلا وذبحا وإرهابا، وأن لا يكون تهميشا وتجريحا وأهانه، وأن ترتقي ذاكرة العراقيين الى مستوى احترام الرأي والرأي الآخر وأن يأخذ القضاء مجراه في العدالة وأن تجـّرم اعمال الانتقام الجماعي أو الإقصاء الجماعي تمهيدا لعقد الصلح فيما بين العراقيين أنفسهم، حينما يعرفون بأن ما من قوة تستطيع إعادة الحياة لموتاهم أكثر من قوة التآخي ومحبة الوطن! تلك القوة التي يخافها تجار الدين والقومية الشوفينية، تجار القتل والسلب والنهب والحروب.
خمسون عاما، وكأنها مرت بسرعة البرق، ولعل من المصادفات ان يتزامن يوم الثاني من تموز عام 2013 يوم ثلاثاء، تماما مثل ثلاثاء 2 تموز عام 1963، فيا لها من مفارقة. ان الكتابة عن هذه المناسبة ربما يمثل عرفانا للشهداء الأبرياء الذين قضوا ولم تسمح السنين نتيجة تبوء الأنظمة الرجعية سدة الحكم على مدى النصف قرن الماضية لكشف الحقائق. وهو أيضا تضامنا مع أهاليهم، مع عوائلهم وأبنائهم وبناتهم، ودعوة لمجتمعنا ان يتملك تلك الروح السامية في احترام مبدأ الشهادة وتقدير رواده، لا بل ان يتحلى بالشجاعة ويطالب بإعادة الحق لمستحقيه حتى وإن كان في فتح ملف اغتيال الضحيتين (المفتي والشعار) مجددا، ليس ترفا بل إنصافا للضحايا. ولعل من نافلة القول، ان قاعدة إنسانية قد جرى تجاوزها في هذه الحادثة أو غيرها، حينما يصر البعض على معاقبة الضحية مرة،أو مرتان أو ثلاث، فيما يمنح الجاني شـــيك المبرأة بدعاوي واهية، وكأن أبناء هذا الشعب يجب ان يكونوا خارج دائرة العمل السياسي أو الوطني، المسجل (حسب رأي البعض) بأسم الطرف الآخر، الأقوى أو الأكثر قابلية على القتل والتدمير!
أما اللقاء ببعض من أهالي الشهداء، وإعادة تقليب الأوراق والذكريات والحوادث، فمن المؤكد انه سيمنح رحلتنا هذه طعما آخر، رغم ما لها من مرارة في حديث وذكريات الشهود.

السيدة "أميرة"
زوجة الشــهيد بحـــي جربوع

"كيف لا أتذكر اليوم؟" تقول أميرة وهي كانت عروسا لعامين فقط، وأماً لفتاتين جميلتين، يوم أخذت الشرطة منها حبيبها وزوجها مرة وللأبد في أيلول 1959. لم تكن رحلة الـ 54 عاما سهلة أبدا، أقولها صراحة. لقد نلت قسطا صغيرا من التضامن لكن معاناتنا كانت اكبر، إن كان داخل العائلة الكبرى (العشيرة) أو حتى من المجتمع بصورة عامة. فقد كانوا ينظرون إليهم على أساس مجرمين قتلة، بينما هم مناضلون سياسيون، وعلاوة على ذلك، فقد كان زوجي الشهيد "بحي" بطلا من إبطال الساحة والميدان ويشار له بالبنان. تنوعت زياراتنا له في السجون، إنا والمرحومة أمه وأحيانا كنت اصطحب بناتنا أيضا. لقد فرحنا كثيرا بتخفيض حكم الإعدام الى مؤبد، ثم الى 15 عاما، وقيل لنا بأنهم سينالوا حريتهم في يوم 14 تموز 63، اليوم الذي لم يأت أبدا!
في يوم الاثنين 1 تموز 63 كنا في بغداد لغرض الزيارة (المواجهة) فقالوا لنا أنهم رحلوا الى الموصل، فعدنا في اليوم التالي، ولما كانت سيارة النقل تقترب من "تلكيف" شاهدت أفواجا من الناس. ومن بعيد لمحت أيضا مقاصل الشنق، لم استطع ربط المشهد، فتوجهت للجموع، وإذا الجريمة كانت قد انتهت فصولها، وأعدموا ودفنوا!
ولأني لم الحق بهم وهم يساقون للموت، فقد ظل الشهيد يبحث عني بين الجموع، ثم نادى على شقيقه وطلب منه إعطاء (حلقة الزواج) لــي وأن يقبل ابنتي ( وفاء وكفاح) بدلا عنه. تصور، هذا المشهد الحزين والمربك حتى في ممات هذا المناضل الصلب. لم يكتف البعثيون بهذه الجريمة الصلفـة بل عاقبوا أهالي القرية الذين شيعوهم الى مثواهم الأخير. وحين أقام الأبوان (سليمان دنحا وروفائيل كنو) مراسيم وصلاة الموتى، تعرضوا للضرب والأهانة، فيما اعتقل بعض من المواطنين عقب ذلك أيضا.
لم تكن رحلتنا اللاحقة سهلة، لكن اشكر موقف عائلتي التي احتضنتني وبناتي وساعدتني في تربيتهما. وبعد ســنين في الغربة، تيسرت لي الفرصة من جديد ان ازور العراق، و"تلكيف" بالذات. وقفت على قبره، حيث رفاته الزكية، وجددت له حبي واحترامي، وأخذت من تلك التربة حفنة (صـّم تراب) وجلبتها لبناتي، ففيها شيئا من أبيهم ووطنه الذي ضحى من اجله. لقد لازمتني صورته وصوته وذكرياته طوال حياتي، ولم يغب يوما. كنت ومازلت دائمة الحديث له، في مشهد يصعب على احد تخيله. انه دائم الحضور، وأستعين به كثيرا في مواجهة صعوبات الحياة.
أشعر بالفخر ان زوجي مات وطنيا مناضلا بطلا، نظيف اليدين والسيرة والسمعة، وأدعو السياسيين اليوم الى إنصاف هذا الفصيل من الشهداء، شهداء انقلاب البعث عام 63، ورفع الغبن عنهم وإعادة الألق الى أسمائهم وعوائلهم. كما لا يسعني إلا ان اشكر الوطنين والشرفاء الذين يشاركونني كل عام في الاحتفال بيوم الشهيد، فرغم مرارتها، لكنها تبقى حلوة بعيوني.
السيد ســالم جميل
الشقيق الأصغر للشهيدين إبراهيم وكوركيس داوود

"ان واحدة من أهم المآخذ على حكم الزعيم كانت في تعطيل الحياة الدستورية ووضع البلاد تحت سلطة المجالس العرفية، هذه التي كان يلجأ إليها الحكم الملكي ولفترة وجيزة جدا. هذه المجالس وعلاوة على شكلها وأحكامها الصورية، إلا ان أعداء الثورة والشيوعية عرفوا كيف يتسلقوها وينتقموا عبرها من اخلص الناس المدافعين عن ثورة 14 تموز".
"لم تكن أوضاع تلكيف طبيعية عقب مقتل السيدين امجد المفتي وعمر الشعار، وكان مدير المركز مطالب بتحديد هوية المتهمين أو الجناة. وهكذا تم تشخيص أهم القيادات الحزبية والمهنية في المدينة وألقي القبض عليهم وسيقوا للتحقيق في أيلول من العام 1959. وبين التعذيب والاستجواب صدرت الأحكام يوم 1/1/1960 بالحكم شنقا بحق 6 من أبناء تلكيف، بينما خففت الأحكام علـّي وعلى السيد بحي بزي بسبب عمرنا الذي كان يبلغ الـ 16 عاما".
"جرت حملات غير قليلة لإطلاق سراحنا، تكللت بإطلاق سراحي بعد ان احتسبت فترة التوقيف والمراحم. إلاّ ان الشهداء كان بالإمكان ان يفلتوا من مصيرهم لو ان القاضي كان قد احتسب فترة التوقيف، إذ بقوا في السجن لفترة أطول، ثم حدث انقلاب 8 شباط وكانت إعادة المحاكمة ومن ثم الإعدام.
لقد سمعت بإعدام أشقائي ورفاقهم بينما كنت في السجن بعبادان، بعد ان هربت من العراق ووقعت بيد الإيرانيين، فكان الخبر من مذياع في صالة السجن".

"في حادثة فريدة، زار تلكيف عضو لجنة العدالة السيد إبراهيم الطويل، سوية مع السيد شمس الدين عبد لله رئيس المحكمة، وطلب منه الصعود الى سطح المركز، وإلقاء نظرة من هناك على موقع الجريمة وسأله: هل ترى مكان حصول الجريمة؟ أجاب شمس الدين:لا. قال له إذن، كيف تمكن مدير المركز ان يشهد على كل هؤلاء ويقول أنهم هم الجناة! ان هذه الحادثة وغيرها تثبت بأن التهم جرى إلصاقها بالمتهمين، كلهم أو بعضا منهم، ولم يكن هناك شاهد إثبات، بل هي انتقام من المناخ السياسي الذي ساد المدينة وانحيازها لجانب ثورة 14 تموز، ونشاط المنظمات المهنية فيها، حتى وصلت نسبة مكافحة الأمية فيها الى 95% بفضل جهود الطلبة والشبيبة ورابطة المرأة والجمعيات الفلاحية."
" إني اعلم بأن هناك ناسا تضامنوا معنا ومع عوائلنا، بينما هناك ناس كانت مواقفهم العكس. أفهم ان قسما كان بسبب انتمائهم للبعث، ولكن نسبة غير قليلة ساقها الخوف الى هذه المواقف. لم يألف البعض ان تنتفض مدن صغيرة، وبأغلبية غير مسلمة وتأخذ زمام المبادرة في بلد مثل العراق."
"وبالعودة الى سنوات التوقيف والسجن وصدور إحكام الإعدام، فقد سئلت مرات ومرات، إنا والشهداء عن القاتل الحقيقي، وكنت أرد عليهم، بأننا لسنا نحن القتلة. وهكذا توصلت الى قناعة بأن محاكمتهم كانت محاكمة بسبب انتمائهم السياسي وليس بسبب الجرم الذي اتهموا به"
"في العراق، وفي بلاد الغربة، لم تكن هذه التجربة بالسهلة عليّ أو على عائلتي. فقد دفعنا ثمنا كبيرا، ومن جانبي فأني اسعي وكلما أوتيت لي الفرصة بالحديث عن تلك الحادثة والإشادة بالشهداء وبسيرتهم وسمعتهم الوطنية النظيفة. كتبت بعض القصائد الشعرية عنهم، وظهرت في برامج محلية إذاعية وتلفزيونية في ذكرى استشهادهم، ولابد لي من تقديم الشكر لكل من تضامن معنا أو من ترحم على الشهداء، الذين قضوا على يد عصابة اثبت التأريخ بأنها كانت معادية لمصالح العراق والعراقيين."
"اليوم، وأنا على أعتاب السبعين من عمري، وبعد تلك التجربة والتجارب المرة والحلوة، اعتز بهذا الرعيل الوطني، ومنهم أشقائي. لقد ضحوا بحياتهم من اجل غيرهم، ولم يكن لهم أية مصالح شخصية من عملهم الوطني، لم يكونوا يبحثوا عن المال أو السلطة. أني أعدهم إبطالاً، عظماء، مثقفين، شجعان وشهداء من اجل الوطن."
يقول الكاتب البريطاني جورج أليوت:"ان موتانا لن يعودوا موتانا أبدا، حتى اللحظة التي ننساهم بها!"
كلمة لابد منها: أتقدم بالشكر للسيدة (م،آ) والسيد (ك،ك) لتشجيعهم وإرشادي في الموضوع، وللسيد داود برنو على مقالته المنشورة في "عينكاوة دوت كوم" والمعلومات الغنية فيها، ولكل من فتح قلبه لي، كون هذا الموضوع كبير وشائك ومحزن، وبحاجة الى دقة وأمانة.