فضاءات

مربون في القلب والذاكرة / كمال يلدو

(2)
لأنهم فتحوا أبواب المستقبل البهي لأجيال عديدة، ومهدوا السبيل لتصبح أحلامهم واقعاً جميلاً، لم تعد مهنتهم مجرد عمل يسد الرمق، بل صارت نبضاً لقلوبهم وإشراقة لسنينهم والهواء الذي يحيون فيه.. إنهم نخبة من المربين في بلادي، الذين اضطروا جراء الخراب والإستبداد والحروب، أن يقضوا سنيّ تقاعدهم في المنافي. تعالوا معي في رحلة قصيرة مع بعض الوجوه العراقية التي خدمت في سلك التدريس في عهود مختلفة. ويقينا ان في جعبة كل واحد منهم قصصاً كثيرة وحكايات وذكريات، وستسمعوهم سوية وهم يصبوها في مجرى واحد كبير، هو حب الأنسان ورفعته.

المربية جوليت ورد شـجر السـبتي

ولدت في مدينة العمارة، محلة "السـريّة" عام 1941، كانت متزوجة من الراحل رحيم كشكول حاجم، ولهم 3 بنات وولدان مع 11 حفيداً لحد الآن. أكملت دراستها بين مدرستي حليمة في سوق الشيوخ والزهراء في الناصرية قبل أن تتخرج من دار المعلمات في الناصرية عام 1962، وتعمل في التدريس في ناحيتي الدواية والبطحاء في محافظة ذي قار ومدارس الخلد والرجاء في بغداد. كان أبوها معلما مرموقا لمادة الرياضيات، وشجعتها العائلة على هذه المهنة الهامة، التي سرعان ما عشقتها، وكرست سنّي العمر لها. كانت تجد في الدروس الإضافية المجانية وفي تنوع الإختصاصات بين الرياضيات والرسم واللغة الإنكليزية متعة تتناسب وفرحة الطالبات ومحبتهن لها. وتتذكر السيدة جوليت ما غرسته معلماتها في أعماقها من حب الناس والمعرفة، فتنحني لذكراهن، روز خليل مدرسة الكيمياء وبرتقالة سوكاوي مدرسة الرياضيات ومليحة الأطرقجي وغيرهن كثير. كما تتذكر بزهو وفرح كيف تقدم منها في أحد الأيام شاب وسيم فسلم عليها وساعدها في نقل حاجياتها، وحين شكرته أخبرها بأنه يقوم برد الجميل حيث كانت معلمته في الرياضيات وكان من ثمار جهدها إن أصبح هو مهندساً ناجحاً.
ولم تك السيدة جوليت لتلقن الطلبة الدروس فحسب، بل كان شعارها أن تنير درب الشباب بحب الوطن الذي تعلمته على أيدي والدها وأثناء نضالها في صفوف إتحاد الطلبة ورابطة المرأة العراقية. وتشير السيدة جوليت الى ما كان للمدرسة والمعلم (ايام زمان) من منزلة كبيرة في حياة الأنسان والمجتمع، فقد كان التلاميذ يقطعون مسافات طويلة احيانا للوصول الى دار العلم المدرسة ، اما اليوم فهناك حالات العصيان على المعلم وتهديده، وربما هذا ناشئ من المشاكل التي عانى منها المجتمع من الحروب والحصار، اضافة الى انعدام تفاهم بين الأهل والمدرسة، وتخلف المناهج وتغيرها نحو الأسوأ.
وحين تتذكر العراق، تنحدر على وجنتي السيدة جوليت دموع الحزن وتقول: لم تكن في نيتنا مغادرة الوطن، لكن ارتفاع وتيرة الإعتداءات علينا (نحن ابناء الطائفة المندائية الأصيلة والمسالمة) وضعنا في فوهة الإستهداف فغدت حياتنا في خطر، فرحلنا الى الولايات المتحدة.
ولولا الحنين للوطن، لكنت سعيدة تماماً، أتقاسم وقتي مع الأبناء والأحفاد، وامارس هواياتي المفضلة كمتابعة للأخبار السياسية والحياكة والقراءة وخاصة الروايات التأريخية.