فضاءات

الطلقة الاولى .. الكمين الاول .. في ذكرى استشهاد الرفاق سلمان ويونس وبهاء / ابو حازم التورنجي

في ليلة حالكة الظلمة، غاب فيها القمر تماما، التقت مجموعة من الرفاق في منطقة ديرلوك، لتكون مفرزة أنصارية من الشيوعيين العراقيين القادمين من مختلف البلدان، وأغلبهم من الدول الاوروبية والجزائر واليمن، شبيبة طافحة بالحماس والاندفاع الثوري، والايمان بعدالة القضية التي تركوا من اجلها الحياة المدنية السهلة، بل تركوا ترف العيش وملذات الحياة في اوربا، وجاؤوا ليمتشقوا السلاح وولوج مخاض عسير وتجربة غاية في القسوة، واضعين انفسهم مشاريع استشهاد على طريق المبادىء السامية التي خطها الشيوعيون من الذين سبقونا،في النضال من اجل قضايا الوطن والشعب العراقي .
جئنا من اجل الالتحاق بحركة الأنصار الشيوعيين العراقيين، تلك الحركة التي بدأت تتصاعد منتصف عام 1979 في كردستان العراق.. ووقتها لم نفكر بالعودة للوطن من اجل القتال والموت، بل كانت تحدونا افكار أعادة بناء تنظيمات الحزب التي تضررت كثيرا جراء هجوم السلطة الدكتاتورية البعثية منتصف عام 1978 فصاعدا .
غادرنا العراق بطريقة شاقة تحف بها المخاطر لحد الموت، وهنا نحن نعود للعراق بطريقة تحف بها المخاطر ايضا، بل ونحن نحمل دمنا على أكفنا، فأي وطن هذا الذي صنعت منه الدكتاتورية الفاشية سجناً كبيراً تخرج منه تحت السيف وتعود اليه تحت السيف او المقصلة، وهكذا كان قدر الشيوعيين العراقيين في نضالهم المعمد بالدم .
في هذه المفرزة المكونة من 32 رفيقاً مسلحاً والتي كانت بقيادة الرفيق يشار نائب الضابط المفصول من الجيش العراقي لأسباب سياسية، رفيق هادىء ورع قليل الكلام .
التقيت بالرفيق سلمان داوود جبو بعد فراق لأكثر من ثلاثة اعوام حيث كنت في ضيافته بـ بودابست، ولي معه ذكريات جميلة بالاضافة الى كونه من عائلة مناضلة ارتبطت معها بعلاقات طيبة وطيدة من خلال العمل الحزبي والطلابي في مدينة الناصرية منذ مطلع السبعينيات، عائلة أبو سلمان التي سخرت كل افرادها وامكانياتها لخدمة الحزب وقضايا النضال الوطني،كان لقاء حميمياً بعث في نفسي بهجة لا حدود لها خصوصا وانه كان الوحيد الذي كنت اعرفه معرفة جيدة عن قرب. ومع سير المفرزة كانت النكات الهامسة وذكريات عن الناصرية، ووجوهها وشخصياتها المميزة كاظم عريبي، شنيشل، كوزان، قدوري.. الوقت يمر سريعاً.. وما هي الا لحظات على عبور الطريق الدولي، حتى جاء الأمر بالتزام الصمت والهدوء المطلق في السير والحركة، وما ان بدأنا بصعود الترابية الاولى المحاذية للطريق الدولي، حتى انطلقت طلقة مذنب (فسفورية للدلالة على اتجاه حركتنا ) وتصاعدت في السماء انوار كاشفة فغدى ذلك الليل الدامس وكأنه نهار نرى فيه الجنود على مقربة منا تماما ..عندها صاح الرفيق يشار آمر المفرزة، "انبطحوا"، وقبل ان يكمل أوامره الأخرى انهال علينا وابل من الرصاص من اكثر من جهة، وبغزارة، لا عهد لي بها?سابقا الا في الافلام السينمائية، لم نكن مهيئين لاستيعابها نحن المقاتلين الجدد قليلي الخبرة وحديثي التدريب البسيط على السلاح. يمر الرصاص من فوق رؤوسنا ونحن منبطحين، والرفيق يشار مستمر في صياحه المدوي " انبطاح، ولحد يرمي ..." ومن الطريف في هذا الموقف المتوتر العصيب سمعت من يرد بطرافة "ليش اكو واحد يعرف يرمي "، وبعد توقف الرمي وانتهاء التنوير صاح الرفيق يشار ثانيا "انسحاب... انسحاب " عندها تبعثرنا وتشتتنا في مختلف الاتجاهات، كنت أنادي على سلمان لانه الوحيد الذي اعرف وقد كان امامي بالضبط في ترتيب المفرزة، ولكن للأسف لم اسمع اي جواب، حتى ظننت انه قد انسحب مع المجاميع المتفرقة الثانية باتجاه اخر. كان معي او بالقرب مني الرفيقان علي ورياض (علي زنگنة ونجم خطاوي )، ومع كل فاصلة لتوقف النيران كنا ننسحب مهرولين، عندها صاح بي الرفيق نجم خطاوي " ابو حازم انا انجرحت " فهرعت زحفا لأعرف منه ان الرصاصة قد اخترقت فخذه لتنفذ من الجهة الجانبية دون ان تمس العظم، ساعدته في شد جرحه وقال استطيع ان أهرول، فأخذت منه سلاحه وحقيبته، واستمرينا ننسحب هرولة، كلما سنحت الفرصة بتوقف التنوير واطلاق النار حتى وصلنا كنيسة ديرولوك والتي كان صليبها الضوئي الكبير خير دالة لنا بالتوجه نحوه، وبمعدل زمني لا يقل عن ثلاث ساعات، وعند حدود القرية تجمع كل المنسحبين من الرفاق بأستثاء ثلاثة، الثلاثة هم سلمان، وبهاء ومنير، وكنا على أمل ان ينبلج الفجر لنعرف اتجاه انسحابهم، ولكن للأسف طال الانتظار دون جدوى، وليأتينا خبر من القرية صباحا ان ثلاث جثث قد شوهدت في المنطقة التي حدثت فيها تلك المعركة وحيدة الجانب .
نسيت كل متاعبي ومعاناتي والخدوش التي ملأت جسدي وبقي صوت تلك الطلقة الاولى ووهجها المذنب في ذاكرتي ورغم أني قد سمعت ورأيت لاحقا العديد مثيلاتها في كردستان، ولكن بقي لتلك الرصاصة ثمة معنى .
لم تغادرني اطلاقا صورة سلمان الاخيرة ونكاتنا المشتركة، ظلت محفورة في ذاكرتي
ثلاثة ايام من الحزن القابض على اطراف روحي .
وبعد كل هذه السنوات لازالت مطالبتي قائمة ومستمرة بإلحاح، على وجوب نقل جثامين الشهداء لتستقر في مقبرة شهداء الحزب الشيوعي العراقي في اربيل.
كل عام في مثل هذا اليوم استعيد في وحدتي تلك الذكرى...
وأقف إجلالا لأرواح الشهداء سلمان وبهاء ومنير، والمجد كل المجد لتلك الشبيبة الوثابة.