فضاءات

المناضل الشيوعي حسن جويعد الزيرجاوي: 62 عاما وتفاصيل انتفاضة آل أزيرج حية في ذاكرته ..

سالم الحميد ، احمد الغانم
حسن جويعد، أحد إبطال انتفاضة آل زيرج عام 1952، التي لم تأخذ استحقاقها إعلاميا رغم أهميتها التاريخية. ساهم حسن فيها بشكل فاعل رغم إنه كان آنذاك في بواكير الشباب، وهي ما زالت حية في ذاكرته يعيشها بتفاصيلها الدقيقة و يحفظ أسماء المشاركين فيها. ورغم أنه من مواليد 1931 فقد، ذهلنا ونحن نستمع إلى سرده للأحداث والأماكن والأسماء والهوسات التي كان يهزج بها ليشد همم الفلاحين الثائرين دون أن تغيب عن ذهنه شاردة أو واردة ، عرف فلاحا مناضلا شيوعيا صلبا قارع ظلم الإقطاع بصلابة وثبات ، وسطر مع رفاقة وأبناء عمومته من الفلاحين ماثرة حقيقية..
التقينا به في داره المتواضعة الواقعة في مدينة الثورة قطاع 25 ، ووجدناه كما عهدناه صلبا لم ينل السن من جسده ولا ذهنه المتقد.
رافقنا في هذه الزيارة الرفيق كاظم بدن أبو ليث الذي عايش الكثير ممن شاركوا في الانتفاضة.
حسن جويعد:
في البدء لا بد من الإشارة إلى دور المعلمين الشيوعيين الذين كانوا يعاقبون بالابعاد إلى لواء العمارة والمناطق الريفية البعيدة، حيث كان لهم دور كبير في إرساء البذرات الأولى للوعي الطبقي لدى الفلاحين، من خلال توعية وتثقيف الفلاحين بضرورة الدفاع عن مصالحهم واسترداد حقوقهم المستلبة ، وذلك بمقارعة الإقطاع الذي كان سببا رئيسيا في فقرهم وجهلهم ومعاناتهم. وكان الرفيق فهد هو من ساهم في الدعوة لكسب المعلمين الأوائل للحزب، فيما ساهمت السلطات بشكل غير مقصود في تمكينهم من التبشير بافكار الحزب بين الفلاحين.
- انتفاضة آل زيرج كيف بدأت وماذا كانت اسبابها؟
- قبل أن نعرج على أسباب الانتفاضة لا بد من التعريف بعشائر آل زيرج .. فهي مكونة من أربع ( حمايل ) هم البو عطوان ، وآل ربيع والحريشيين والسواعد البتران. وكانوا محكومين من قبل اثنين من الإقطاعيين:
بيت شواي الفهد (الشيخ عبد الكريم بن شواي الفهد) رئيس عشيرة القسم الشمالي وبيت سلمان (الشيخ مطلك السلمان) رئيس عشيرة القسم الشرقي .
وكانت الهيكلية في الريف كما يلي: الشيخ ومن ثم السراكيل وبعد ذلك الفلاحون وهم المنتجون الذين لا يأخذون من نتاج جهدهم إلا ما يسد الرمق. وكان الشيخ قاسيا لا يرحم أحدا ، ويعامل الجميع كعبيد لديه.
ومن هنا جاءت الشرارة الأولى.
في ذلك الحين تداول الفلاحون خبراً مفاده أن حزب الأمة الاشتراكي الذي أسسه صالح اعلن في بيانه التأسيسي انه سيعمل على توزيع الأراضي على الفلاحين ، وكان هو نفس الهدف الذي ناضل من أجله الحزب الشيوعي وكان يثقف جماهير الفلاحين على أساسه. لذا تطابقت الرؤى بين رغبات الفلاحين وآمالهم المشروعة وأهداف الحزب وما أعلنه حزب الأمة الأشتراكي وإن كان لأغراض تكتيكية.
في شهر كانون الثاني من عام 1952 اجتمع رهط من وجوه العشيرة في مضيف آل شواي في الهدام، وكان بين الحضور أبريسم بن الحاج مذكور، الذي قام بشرح الطريقة التي سيتم توزيع الأراضي بها على الفلاحين. ولكن ذلك أثار حفيظة الشيخ الذي استشاط غضبا وقال إن تلك دعايات باطلة، وأنها محض أوهام! ولم يكتف بتوبيخ ابريسم بل كذلك قام بضربه بقسوة وبشكل استفز الجميع، وقال متوعدا : كل من يردد مثل هذا الكلام سيكون مصيره الموت ..
كان الخبر قاسيا على حجي مذكور حين تلقى خبر ضرب ابنه ؛ كونه كان يعد نفسه من الشيوخ، لذا قرر الرحيل وهو يقول: أن بقائي في المنطقة عار عليّ وعلى اخوتي.
لكن عدداً كبيراً من وجهاء العشيرة توجهوا اليه لاقناعه بعدم الرحيل بينما ذهب قسم آخر إلى مضيف الشيخ لغرض تهدئة النفوس ، طالبين منه أن يعتذر من حجي مذكور.
لكن الجهود باءت بالفشل بعد أن وجدوا الشيخ أكثر تعنتا من ذي قبل، بل زاد مهددا ومتوعدا: لو كان مذكور نفسه هو من قال ذلك، لضربته وأهنته أيضا!
كان الجميع في حالة ارتباك وبعد تداول فيما بينهم قرروا الوقوف إلى جانب مذكور. قرر مذكور البقاء، فقد كان مسرورا بموقف آل زيرج المؤازر له والذي شد من عضده ..
وتفرر الاجتماع في بيت حاتم آل مذكور بعد ان وجهت رسائل شفهية إلى كل وجهاء آل زيرج، حيث كنت أنا وبعض الشباب نعمل كسعاة بريد ومبلغين يوصلون رسائل بيت مذكور وبعض قادة الانتفاضة و منهم حجي مونس ( خالي ) إلى بقية وجهاء العشيرة. وكان القرار المتخذ هو إنهاء سيطرة الشيوخ .. وتوزيع الأراضي على الفلاحين
لكل ثورة قادة يعملون على تحقيق أهدافها. ترى من أشعل فتيل الثورة؟ هل كان ضرب ابريسم سبباً في اندلاعها؟
- الثورة لم تولد من فراغ ، كانت هناك بذور الوعي الأولى التي غرسها الشيوعيون الأوائل
(المعلمون) الذين قاموا بتأسيس الخلايا الأولى للحزب الشيوعي في الريف، ومنهم الشهيد حسين الشبيبي. وقد تبلور هذا الوعي، في رفض كل ما يمتهن كرامة الإنسان وفي التحرر من نير العبودية المسلط على رقاب الفلاحين. لكن حادث الاعتداء على بريسم كعود الثقاب أشعل فتيل الثورة.
قام بالانتفاضة على الشيخ حجي مذكور وأولاده ، كل من ابريسم وحاتم ووجهاء آل زيرج الاخرين الذين رفضوا الظلم.
تم الاجتماع و حضره عدد كبير من الوجهاء واتخذوا عدة قرارات مهمة، كان من بينها
وحسب توجيهات الرفاق الشيوعيين الذين دخلوا على الخط منذ بداية الأزمة
- ثبات الفلاحين على موقفهم وعدم التنازل عن مطالبهم العادلة والمشروعة .
- توجيه رسائل إلى وجهاء كافة المناطق التي تقطنها عشائر آل زيرج لشرح قضيتهم وكسب الدعم والإسناد لهم ..
- التهيؤ لكافة الاحتمالات التي يمكن أن تصدر عن الشيخ أو الحكومة لمواجهتها.
- التوجه إلى بغداد لعرض قضيتنا أمام رئيس وزراء العراق آنذاك نوري السعيد ووزير الداخلية صالح جبر.. وقد شكلوا وفدا من أربعة أشخاص هم حاتم المذكور والحاج مونس واثنان من الرفاق الشيوعيين . الذين ذهبوا معهم لإبداء المشورة والنصح. لكن لم يسمحوا للوفد بمقابلة رئيس الوزراء وبعد جهد حثيث تمكنوا من مقابلة وزير الزراعة فكان المتكلم الحاج مونس الذي قال بوضوح:
نحن عشائر آل زيرج لم نكن محكومين قبل اليوم من أي شيخ أو إقطاعي كنا دوما نحكم أنفسنا بأنفسنا، و من جاء بحكم الشيوخ، على يد لاقينا من الظلم الكثير نحن نطالب سيادتكم بتوزيع الأراضي على الفلاحين .. ونتعهد لكم بدفع الضرائب ومنها ضريبة الأرض ، وأي شيء تريدونه نحن مستعدون لتنفيذه ..هذا جانب
وشرح الحاج مونس الظلم الذي يتعرض له الفلاحون والممارسات التعسفية للإقطاع ، لكن هذا الكلام لم يرق للوزير فقال مهددا ( أنا لا أسمح لكم بالتكلم هكذا ) ورغم ذلك تحدث الحاج مونس بصوت عال منتقدا سياسة الحكومة تجاه الفلاحين وانحيازها التام للإقطاع.
وصل خبر المقابلة إلى منطقة أم كعيدة فتجمع الأهالي واقاموا عراضة كبيرة * وكنت أقول فيهم مفاخرا بخالي الذي لم يهب الوزير:
منك يا أبو فاخر اجتنا خوش أعلوم
واجهت الوزارة وعلى الملك مندوم
الإقطاعي من سمع بينا ظل يلوم
أصبح يتريك بالذل وأمه تلوم عليه
ازداد تكاتف الفلاحين وازداد ت أعداد المنضمين اليهم، وتناقلوا أخبار التمرد الذي يعتزم الفلاحون القيام به بعدما رفضت الحكومة سماع مطالبهم.
جاء بعد ذلك أشخاص ارسلهم الشيخ محذرين الحاج مونس وطالبين منه ترك القضية ، وانهم سيعطونه ما يريد، لكنه أبى أن يخون أخوته الذين وضعوا ثقتهم فيه. وانظم الكثير من الشيوخ المقربين للشيخ مطلك وابنه جثير .. وبذاك فقد السند بعد أن تخلى عنه الكثيرون، حتى هوست مستهينا بجبروت ذلك الرجل الذي كان يسوم الفلاحين العذاب، مشبها إياه بالدجاجة:
أصبح بياضة وكفّت يا سبحان الله الديج الجان يعوعي ..*2
زادت أعداد الفلاحين المناهضين للشيخ، وحتى حوشيته انضموا للانتفاضة، وبعد ذلك، بعد أن أصبحت معركتهم حتمية ووشيكة الوقوع وبدا واضحاً أن الشيخ سيؤلب عليهم الحكومة التي كان من واجبها حماية نفوذ أولئك الإقطاعيين، بدأت مرحلة الاستعداد والتحضير للدفاع عن النفس وعن مكتسبات الفلاحين التى سبق ان حصلوا عليها.
وشعر الشيخ مطلك بانه يفقد نفوذه فتوجه الى شيوخ العمارة محذرا من مغبة نجاح فلاحي آل زيرج في انتفاضتهم. قائلاً: إذا اليوم تغدوا بي باجر راح يتعشون بيكم.. مما أثار هلعهم صفأكدوا مساندتهم له، وذهبوا مجتمعين إلى متصرف لواء العمارة ، وقالوا له بالحرف الواحد: إن لم نضع حدا لهؤلاء الفلاحين فسوف يكون العصيان لا على الإقطاع فحسب بل على الحكومة. وكان رئيس الوزراء نوري السعيد يتابع التطورات الخطيرة فاوعز بإرسال قوة من الشرطة السيارة الى العمارة، مكونة من 362 فردا بقيادة حسين فوزي ويساعده عزره ورده التركماني وهو ضابط معروف بقسوته ومعهم سلاح احدى عشرة رشاشة برن وخمس رشاشات فيكرز إضافة لأسلحة أفراد الشرطة الاعتيادية.
وصلت القوة إلى منطقة باب الهوى لتعسكر هناك،وكانت ثمة أسماء من قادة الانتفاضة مطلوبين للقضاء منهم الحاج مونس. فقاموا بنصب رشاشات البرن أمام مضيفه، اكنه استقبلهم بكل حفاوة، وقام حسين فوزي بقراءة أسماء المطلوبين على مسامع الجميع لغرض اعتقالهم، لكن أهل كعيده حالوا دون ذلك، حيث أحاطوا بالمضيف وبالشرطة، ثم سمحوا للشرطة ان تنسحب بشكل يحفظ ماء وجههم ، بعد أن طلبوا الأمان من حاج مونس.
ومرت الأيام مشحونة بالأحداث وبالقلق ، ورغم أن المفاوضات استمرت فان شيئا لم يتحقق، وعند اقتراب موسم الحصاد، جاء حسين فوزي ومعه أكثر من 60 شرطيا ، طالبا أن يذهب أربعة أشخاص للتفاوض مع المتصرف وهم حاج مونس وزاير علي وعباس عامر ومانع غضب .. وحتى لا يدخل الفلاحون في مواجهة مع الشرطة ، وافقوا على طلب المفاوضات ، وهي خدعة عمدوا إليها ، حيث أحاط أهل كعيده بالشرطة، وصعدت أنا وحميد داحوس إلى المركب الذي كان يراد إيصال المطلوبين الأربعة على متنه، وهناك دفعنا خناجرنا نحو نحور الشرطة الذين ذهلوا ما أن وجدوا أنفسهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم. عند ذاك طلب حسين فوزي السماح لهم بالعودة من حيث أتوا ، فكان له ما أراد. وحينها هزجت بهوستي المأثورة والتي رددها كل من كان موجودا :
"ردينه القايد وجنوده "
لم ييأس الشيخ من استعادة ملكه وسلطانه الضائع، فعند موسم الحصاد أرسل حوشيته ومواميره لجمع الحاصل، لكن جميع قيادات ام كعيدة وقفت رافضة.
وتأزمت الأمور أكثر فتهيأنا للمعركة الفاصلة. كان الشرطة يتربصون بالفلاحين للانقضاض عليهم وتطويقهم ، رغم انتشار الفلاحين المدافعين على طول نهر الرفيش. كانت القوات المهاجمة اقوى، تقلهم عشرات الناقلات ، ومجهزة بأحدث الأسلحة الأوتوماتيكية ولديهم ذخيرة كبيرة. في حين كان الفلاحون لا يملكون إلا أسلحة قديمة عبارة عن بنادق باشية ألمانية جيشيه وفالات وعصي، ولا يملكون الذخيرة الكافية التي تعطيهم القدرة على المطاولة.
وبعد مواجهة بين مسلحي الشيوخ ومسلحي آل زيرج ، انهزم مسلحو الشيوخ أمام بسالة وبطولة الفلاحين. ثم حصلت خدعة كبيرة قلبت موازين المعركة، حيث أوهم المدافعين بأن الشرطة انسحبت، لكن الذي حصل هو أنهم استغلوا احدى الثغرات للتغلغل في العمق، فطوقوا الفلاحين الذين صاروا تحت مرمى بنادقهم. أما فلاحو الرفيش فلم يستسلموا وقاتلوا ببسالة حتى النهاية.
قتل في هذه المعركة عدد من الفلاحين ومنهم امرأة تدعى ليلوة محسن السيد طعمه وكانت واحدة ممن ابلوا بلاء حسنا وواحدة من بين ستة شهداء سقطوا ، الى جانب جرح سبعة من الفلاحين.
وتكبدنا خسائر كثيرة في الحيوانات بسبب الرمي العشوائي، حيث بدأت المعركة في السادسة صباحا واستمرت حتى الثامنة مساء..
توقف القتال بعد تدخل السيد علي مزهر الياسري، ودفنا شهداءنا بعد هدنة لثلاثة ايام.
وهكذا وئدت الثورة وهي في مهدها، لأنها لم تملك مقومات نجاحها. لكن ما حققته من نتائج معنوية كان كبيراً جدا .. وصارت درسا نضاليا نتعلم منه ونستمد العزم ولا شك في انها من ممهدات ثورة 14 تموز 1958.
الفترة التي استغرقتها احداث الانتفاضة وما الذي حققتموه بفضلها؟
المدة التي استغرقها الاحتراب مع الفلاحين الإقطاع كانت أكثر من سنة، الانتفاضة الا بعد أن سيطر ت القوات الحكومية على الوضع.
في فترة سيطرتنا على الأرض جعلنا الأرض أميرية ، يمكن لأي فلاح أن يستثمرها، وتم نصب مكائن لنقل المياه وتأمين ارواء الاراضي. وقد
هوست أثناء نصب تلك المكائن ناعتاً الشيخ بالشيطان:
"أصبح شيطان اباب الكعبة وكل حجاج يرجمونه"
بعد ان فشلت الانتفاضة عاد الإقطاع أكثر غطرسة وطغيانا وتشفيا بالفلاحين، حتى أن الشيخ أمر بوضعي في تابوت وغلقه، مذكرا اياي بالهوسات التي كان يتناقلها الفلاحون. لكن احداً لم ينفذ أمره.
ألقوا القبض على الكثير من قادة الإنتفاضة وحكموا عليهم بأحكام مختلفة من سنتين إلى خمس سنوات ومنهم فنجان العبل ، ومونس رضيو ، ومرزوق كالط ، وسلمان وادي وعباس عامر والكثير من وجوه العشيرة الآخرين، وهم وجوه سنبقى نتذكرهم دائماً ونعتز بهم وبتضحياتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1* العراضة تجمع عدد كبير من الرجال الذين يتحلقون حول بعضهم متبارين في إلقاء أهازيج وهوسات يبدأونها بأبيات من الشعر الشعبي ويفاخرون بعشائرهم.
2* بيّاضة / الدجاجة التي تضع البيض
كفّت / الدجاجة التي تجلس على بيضها حتى يفقس.