فضاءات

النصيرة أم أنصار حدثتنا : عن مغادرة الوطن والرجوع اليه وعن المفارز وأيام الكفاح


لقاء وإعداد علي محمد ( أبو سعد إعلام)
عبر التلفون أجريت حواراً مع النصيرة أم نصار. ولطول المادة اخترنا بعض المحطات المهمة في مسيرتها.
البداية؟ نبذة أو مقدمة عن ظروفك في بغداد حيث تسكنين؟
- في أواخر السبعينات من القرن الماضي تصاعدت متابعة وملاحقة السلطة البعثية للشيوعيين وعموم الوطنيين الديمقراطيين الذين رفضوا الانتماء الى حزب البعث، وأخذت المضايقات تزداد شدة مع كل يوم جديد، ومن بينها الاعتقال والخطف والاغتيال وتلفيق التهم ..الخ وقد شملت تلك الإجراءات بيتنا إذ كان والدي من الشيوعيين المعروفين. وحين خرج من الدار وركب سيارته داهمته مفرزة الأمن وأخذت تجرجره إلى سيارتهم. كنت حينها طالبة في إعدادية التجارة. خرجت مسرعة من البيت ورحت أصرخ منادية الجيران والمارة بأن الأمن يخطفون والدي وحاولوا إسكاتي ولم يفلحوا. ولكنهم في نهاية المطاف اعتقلوه. أطلق سراحه بعد بضعة أيام مع تهديد بأنهم سينتقمون مني على ما فعلت بهم. طلب والدي مني الإسراع بالانتقال إلى بيت خالتي، وبعد التمادي بالملاحقة والتهديد غيرت العائلة أيضاً محل سكناها في حي العامل إلى حي الخضراء في بغداد. طلب مني والدي مغادرة العراق الى سوريا وكان أبو نصار قد سبقني إليها وكنا مخطوبين وتم عقد قراننا ولم تتح لنا الظروف الصعبة والملاحقة إتمام مراسيم الزواج. حتى بعد مغادرتي وصول والدي إلى بلغاريا لم تتوقف ملاحقات السلطة لباقي أفراد العائلة وتعرضوا إلى أذى وضرر كبير من جراء الاعتقالات والتعذيب.
كيف تدبرت أمرك في دمشق؟
- نزلنا في فندق وإتصل بنا الرفاق. وبعد بضعة أيام تم تزويدنا بهويات تابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وبواسطتها سافرنا إلى بيروت عبر الطريق العسكري.
في البدء كان التدريب العسكري مقتصراً على الرفاق دون شمول الرفيقات به وكذلك الذهاب إلى كردستان مقتصراً عليهم أيضاً.
كان عددنا 16 رفيقة أذكر منهن: عشتار، ليلى رش، دروك، أم ثابت، بدور، تانيا، أم ازدهار، أم هيفاء... .
بعد ذلك قدمت 8-10 رفيقات مقترحاً للقيادة أن يشمل التدريب العسكري الرفيقات واستعدادهن لمصاحبة أزواجهن الى كردستان.
وفعلاً تم تدريب أغلب الرفيقات على مختلف الأسلحة، ولم يتسن لي التدريب معهن.
لم يكن لدينا أي تصور واضح عن المكان الذي سنصل إليه ولا عن شكل الحياة التي تنتظرنا ولا عن المهام التي ستوكل إلينا أو التي سنقوم بها. كان لدي تصور أن عملنا سيكون في مدننا أو بالقرب منها، وهو أفضل بالمقارنة مع وجودنا في بيروت.
لننتقل إلى الرحلة صوب كردستان، ماذا تتذكرين منها؟
- بعد مضي شهرين في لبنان جرى تبليغنا بالتهيؤ للسفر إلى دمشق ومنها إلى القامشلي. وهناك أمضينا شهراً ونصف الشهر من الانتظار قبل تحركنا صوب تركيا مستخدمين جوازاتنا العراقية بعد حصولنا على الفيزا التركية لم تكن الرحلة إلى العراق سهلة رغم أننا قد استخدمنا السيارات للوصول إلى القرى الحدودية القريبة من العراق والتي لدى رفاقنا منافذ دخول بالتعاون مع أحد الأحزاب الكردية - التركية. كانت المفرزة تضم إلى جانب الرفاق أكثر من عشر رفيقات.
- من التوجيهات التي قدمت لنا في دمشق والقامشلي بأن لا نترك شعرنا طويلاً سائباً فقصصناه ليبدو أقرب إلى شعر الرجال.
بعد مسير صعب لثلاثة أيام، بتنا ليلتين في قريتين كرديتين في تركيا.
ومع هذا العدد من النصيرات، وصلنا إلى شكفتة (مغارة) أبو حربي ونحن في أوج حالة التعب والإرهاق. و شكفتة أبو حربي محطة وسطية تقع قرب الحدود العراقية. والتقينا هناك بمجموعة من الرفاق.
أمضينا في تلك المنطقة المعزولة عن العالم ربما أسبوعاً من الراحة واستعادة القوى.
عند المساء غادرنا المكان وبدأنا نجتاز بعض الجبال والوديان حتى صباح اليوم التالي. وبعد مسير صباحي قصير صار مسيرنا في ما يشبه المنبسط أو منطقة متموجة فأخبرنا رفاق مفرزة الطريق بأننا قد صرنا على التراب العراقي. تباينت مشاعرنا وقد انتابني حينها هاجس بين الفرح والحزن، رغم أن الحس الوطني كان عالياً لدى الجميع. كانت تلك البقعة التي دخلنا الحدود منها أرضاً جرداء مقفرة. ولكن لم أفقد الأمل في الوصول إلى مناطق قريبة من المدن أو القرى العراقية.
لم تحتفظ الذاكرة بالكثير من الأمور التي تصف الرحلة بتفصيلاتها سوى التعب الشديد والعطش والجوع. ولكن حينما أخبرنا الرفيق أبو وسن بأننا سنصل في غضون نصف ساعة إلى مقر الحزب انبرى له أحد الرفاق وراح يطلب منه أن يقسم لهم بالمقدسات بأن تلك المعلومة صحيحة لا مثل المرات السابقة! فأقسم له بذلك وكان صادقاً.
وصول أبو جميل
- كنت قد سمعت عن الرفيق أبو جميل وشجاعته المميزة من أبي ولكني لم أستطع أن أرسم له صورة في مخيلتي. حين وصولنا إلى وادي كوماته كان الموقع يقاد من لجنة قوة مقر قاطع بهدينان. كان الأنصار والنصيرات ممن لم يشاهدوا الرفيق أبو جميل ولكنهم سمعوا الكثير عنه من رفاقه في المقر. كنا في لهفة كبيرة للتعرف على ذلك البطل المقدام. لم أتخيله أن يكون بهذه الهيبة والقوام الطويل والقيافة الرائعة، انبهرت بمظهره وأعجبت بعد ذلك بتواضعه الكبير الذي يبديه إزاء الرفاق جميعاً دون تمييز. وبعد بضعة أيام من وصوله، اجتمع الرفيق أبو جميل بفصيل النصيرات من أجل معرفة احتياجاتنا. وطرحنا عليه رغبتنا واستعدادنا للمشاركة في المفارز.بعد بضعة أسابيع التقى بنا الرفيق "أبو جميل" مرة أخرى وأخبرنا بأن نستعد للمشاركة ضمن المفرزة التي سيخرج بها إلى المنطقة. كانت فرحتنا كبيرة ونحن سنخوض تلك التجربة التي تختلف عن المفرزة التي قدمنا بها من تركيا إلى المقر، سنكون في مواجهة مع وضع جديد يتضمن شتى أنواع المخاطر والمصاعب وسنمتحن قدرتنا وإمكانياتنا بشكل آخر.
منذ الصباح لبسنا ملابس البشمركة النظامية مع كامل القيافة العسكرية وتحركنا صوب يك ماله ومنها صعدنا سلسلة جبلية لنعبر من خلالها المنطقة المحرمة التي هجرت السلطة قراها ومنعت الناس من التحرك ضمنها بإقامة عدد من المواقع العسكرية والربايا. كان هدف المفرزة الوصول إلى قرى منطقة البرواري.
كانت المفرزة خطوة مهمة بالنسبة لنا رغم أنها لم تكن ذات مهام قتالية، بل استطلاعية إعلامية. كانت مساهمتنا مفيدة في القرى المسيحية أو في بعض البيوت التي يتكلم أهلها العربية والنصيرة أم عصام تجيد اللغة الكردية وهي التي تشرح للقرويين والقرويات دورنا ومهامنا النضالية وسياسة الحزب في الكفاح المسلح ضد السلطة الصدّامية. وفي القرى المسيحية كانت هي وأم أمجد تنشطان بالحديث مع أهلها باللغة الآشورية. تعرفنا على طبيعة المنطقة وعلى أسلوب الحياة ولمسنا تعاطف أغلب الناس معنا، رغم وجود بعض الذين لم تعجبهم فكرة وجود نصيرات ضمن الحركة المسلحة.
بعد بضعة أيام التقينا بالمفرزة التي كانت بقيادة الرفيق أبو شروق (ملازم شاكر) عند أطلال قرية مهجرة، وصار تجوالنا مشتركاً.
أهم المشاكل التي صادفتنا؛ عدم مقدرة بعض النصيرات البدنية على المسير الطويل حينما يكون المسير في أماكن وعرة أو ذات انحدار حاد، والأمر الثاني هو عدم معرفتنا للغة الكردية وثالثاً محدودية خبرتنا العسكرية والتثقيفية، وأخيراً عدم توفر حمامات في معظم القرى، ولكننا كنا في بعض الأحيان نستعير قدراً أو صفيحة من القرى ونذهب إلى مكان بعيد للاستحمام وغسل الملابس، إضافة إلى إشكالات المرأة البيولوجية. ولكننا تعلمنا الكثير من تلك التجربة التي مهدها لنا الرفيق أبو جميل بذكائه المعهود. دام تجوالنا أكثر من شهر وعدنا إلى مقر كلي كوماته بعد أن التحق بعض الأنصار بالمفرزة القتالية.
 هل كانت تلك المفرزة الوحيدة التي شاركت فيها؟
 كلا، فبعد فترة اخبرنا بالاستعداد للالتحاق بمفرزة زاخو.
رحبنا بالقرار على الفور وشعرت بزهو كبير لاختياري للعمل ضمن مفرزة قتالية لها سمعة جيدة من خلال العمليات الجريئة التي نفذتها.
تحركت المفرزة بقيادة الرفيق أبو برافدا الذي كان قد جاء ببريد المفرزة إلى مقر القاطع. وفي اليوم الثالث التقينا مع المفرزة وصار تنسيبنا إلى الحظائر.
كانت المفرزة في تنسيق دائم مع مفارز الحزب الديمقراطي الكردستاني للقيام بالعمليات العسكرية المشتركة. ومنها عملية ضرب واقتحام قرية "كُريمه" التابعة للجحوش بقيادة مختارها "عزو" وتم فيها أسر عدد منهم بعد هرب عزو ومساعديه.
وبعد بضعة أيام قررت المفارز الثلاث ضرب واقتحام ربيئة " دركار عجم" والتي تقع قرب مقر لواء باطوفة ويربطها بزاخو طريق معبد، وشاركنا فيها أنا و أم طريق. وتم وضعنا في الكمينين المتصديين للتقدم الذي قد يحصل من جهة لواء باطوفة أو من معسكر زاخو. ومن الصدف أن يأتي التقدم بعدما بدأت العملية العسكرية من الجانب الذي كنت متحصنة فيه مع عدد من الأنصار والبيشمركة وبدأنا التصدي للتقدم وأوقفناه. وكانت القذائف المضادة تقع في أماكن قريبة منا ولكننا واصلنا إطلاق النار غير عابئين بها كثيراً، لأن مكاننا كان حصيناً نوعاً ما.
لم تستطع القوة المهاجمة أن تتقدم لاحتلال الربيئة لشدة المقاومة ولاشتراك المواقع القريبة بإطلاق القذائف صوبنا. انسحبت القوة عند الغروب دون خسائر من جانبنا.
كانت تجربة فريدة بالنسبة لي ولأم طريق لنمتحن مقدرتنا على خوض العمل العسكري بشكل جيد. وقد انتشر خبر مشاركتنا في تلك العملية بين القرى القريبة مما ساهم بنقلة نوعية تقديرية لنا، خاصة بين النساء. حتى أن صادق عمر آمر إحدى مفرزتي الحزب الديمقراطي الكردستاني قام بتأنيب بعض البشمركة في مفرزته الذين انسحبوا من المعركة بعد اشتداد القصف مستشهداً بموقفنا الشجاع حتى اللحظات الأخيرة من الانسحاب. ومن الجدير بالذكر ان النصيرة الشجاعة "أم نصار" واصلت مسيرتها النضالية الأنصارية الى اللحظات الأخيرة، عندما استخدم النظام الغاشم السلاح الكيمياوي ضد الحركة الأنصارية والشعب الكردي بعد ان عجز، ورغم ترسانته الحربية عن كسر شوكة الانصار والبيشمركة. وطيلة هذه الفترة والصعوبات الهائلة استمرت "أم انصار" مع بقية النصيرات في العمل الأنصاري وفي جميع مفاصله دون استثناء.
تحية حب وتقدير كبيرين لرفيقتنا النصيرة أم نصار ولكل نصيراتنا الباسلات اللائي رفعن راية حزبنا في كردستان وفي كل انحاء العراق.