فضاءات

حول الشهيد النصير ( ابو إيفان ) / عبد الرضا المادح

تحت عنوان " مفرزة بهدينان الكبرى والشهيد الاول النصير ابو إيفان " كتب النصير العزيز أمير أمين ( ابو سعد ) ، مقالا ًقيما ً، سجل فيه ذكرياته عن المفرزة القتالية بقيادة النصير القائد الراحل توما توماس ( أبو جميل ) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، وكذلك عن استشهاد النصير البطل هرمز يوسف بوكا ( أبو إيفان ) ومراسيم دفنه.
أن الكتابة عن شهدائنا ، هو تعبير عن وفاء الشيوعيين وتسديد جزء من الدين الذي بذمتهم وذلك بأرشفة حياة وبطولة الشهداء لكي لا يطوي النسيان ذكراهم وهذا اقل مايمكن تقديمه لهم ولاهلهم ، وكذلك ارشفة تاريخ الحركة الانصارية التي ناضلت ضد نظام البعث الدكتاتوري الهمجي .
و اضافة الى ماورد في المقال المذكور أود أن ادقق واضيف بعض التفاصيل والتي كنت مشاركاً وشاهدا ًعليها :
أن مقص الزمن لايرحم لاسيما وأننا نكتب عن احداث مرّ عليها خمسة وثلاثون عاما ً، فلا ألوم الرفيق العزيز ابو سعد إن إلتبست عليه الصورة ، فقد ورد في المقال أن المفرزة بقيادة الرفيق الراحل ( ابو جميل ) والتي انطلقت " في الثاني من تشرين الثاني عام 1980 "..... " وكان قوامها 36 رفيق وكانت المفرزة الأكبر في ذلك الوقت " ، أود أن اذكّر أن هناك مفرزة قبلها اكبر منها ( وكنت مشاركا ً فيها ) انطلقت من نفس القاعدة في بهدينان وادي " كوماته " بتاريخ 15 ـ 9 ـ 1980 وبقيادة الرفيق النصير الراحل ( أبو ماجد ) ، وكانت تضم 39 رفيق من حزبنا الشيوعي و 6 مقاتلين من الحزب الديمقراطي الكردستاني وكانوا معنا فقط لتأمين وصولهم الى منطقة ( برواري بالا ) حيث انفصلوا عن المفرزة هناك . انطلقت المفرزة من المقر الساعة الثالثة فجرا ً ووصلت بعد مسير شاق حوالي العاشرة ليلا ً الى قرية ( قُمرية ) المهجرة ، اي بعد 19 ساعة وذلك لبعد المسافة والتحرك البطيء بسبب أن الرفيق ( ابو ماجد ) كان يعاني من ضيق التنفس ( الربو ) فكانت المفرزة تتوقف كل عشرة دقائق تقريبا ً للاستراحة ، ولأنها المفرزة القتالية الاولى فقد حُمـّل الرفاق انواع الاسلحة والعتاد ، بالأضافة للمواد الغذائية والادوية وحتى الكتب في اكياس الظهر ( العليجة ) ، وكنت احمل السلاح الرشاش المتوسط ( العفروف ) وهو لوحده يزن 17 كيلوغرام ، وكانوا الرفاق يشعرون بمعاناتي وعرض العديد منهم مساعدتي بتبديل سلاحي مع ( الكلاشنكوف ) فرفضت ، لاني كنت ايضا اشعر بمعاناتهم لاسيما غالبيتهم يشارك للمرة الاولى بمفرزة ولم يتعودوا على المسير الشاق ، وعند وصول المفرزة اعلى الجبل المشرف على وادي ( قُمرية ) اصرّ الرفيق ابو قيس ( استشهد لاحقا ً) على مساعدتي فوافقت بشرط اعادته لي في اسفل الوادي ، فأخذ ( العفروف ) واخذت انا بندقيته ( الكلاشنكوف ) وبقيت مخازنها الاضافية عنده . اخترقت المفرزة عمق ظلام الوادي لتصل الى بناء صغير وحيد متهالك قيل لنا انه جامع القرية ، وهو ماتبقى من بيوتها المهجّرة والمهدمة ، الجامع يتكون من غرفة صغيرة امامه باحة صغيرة ايضا ً، تكدست الاجساد المنهكة في المساحتين جنبا ًالى جنب ، وساد الصمت حيث نام معظم الرفاق طلبا ً للراحة واستغلالا ً للوقت الطويل نسبيا ً، لأن مجموعة من الرفاق ذهبت لاستطلاع نقطة العبور على الشارع المسفلت الواصل بين ناحية (باطوفة ) وناحية ( كاني ماسي) ، وللتأكد من عدم وجود كمين للجيش .
بعد ساعتين تقريبا ً أي حوالي الساعة الثانية عشر منتصف الليل ، اخترق ظلام الوادي عينيّ بعد أن ازاح ظلام النوم القلق ، فلم ارى اشباح الرفاق التي كانت تزاحمني المكان ، صدمت وادركت فورا ً أن المفرزة غادرت دون أن يتأكدوا من العدد الكلي ولم يكتشفوا غيابي إلا في صباح اليوم التالي ! طبعا ً هذا بسبب الارهاق الذي اصاب الجميع ، هرولت مسافة بالأتجاه الذي سلكته المفرزة فلم اجد احدا ًو حتى اصواتهم ابتلعها الظلام فلم اسمع إلا صدى أنفاسي ، فكرت انهم عبروا الشارع ولا استطيع المجازفة بالمواصلة لاني لا أعرف المنطقة ، ولا أعرف أين توجد ربايا الجيش ، ولذا قررت العودة للمقر أو على الاقل الانسحاب من منطقة الخطر بأسرع مايمكن قبل أن يكشف ضوء الفجر عريّ وحدتي . سأكتفي بهذا القدر من الحدث وأترك ماتبقى لمناسبة اخرى لانه ( أكشن ) واقعي يصلح كسيناريو فلم ، خصوصا ً وأني دخلت في قاعدة للجيش التركي بسبب خباثة شيطان الظلام وخرجت منها بأعجوبة .
وصلت مقر كوماته حوالي الساعة التاسعة من مساء اليوم التالي ، فأرتعب الرفاق ضنا ًمنهم أن سوءاً لحق بالمفرزة ، فطمأنتهم وشرحت لرفاق قيادة القاطع ماحدث .
بتاريخ 01 / 11 / 1980 تحركت مفرزة ليست بالكبيرة من المقر بقيادة الرفيق ابو فؤاد ( استشهد لاحقاً بالقصف الكيمياوي ) وكنت معها ، وقد سبقت مفرزة ( ابو جميل ) بيوم واحد ، وهذا يشير الى أن مهمتها تأمين الطريق للمفرزة اللاحقة ، وحسنا ً فعل الرفيق ( ابو جميل ) فهو عسكري ولديه خبرة بالعمل الانصاري ، أي أن المفارز الثلاثة لم تتحرك من المقر بنفس الوقت ، كما ورد في مقال الرفيق ( ابو سعد ) ، ثم التقت المفارز الثلاث في ( برواري بالا ) و ( بري گارة ) لتشكل مفرزة كبيرة تحركت باتجاه ( بيرموس ) و ( القوش ) ونصبت كمين بتاريخ 09 / 12 / 1980 في وادي ( گلي رمان ) لسرية مغاوير للجيش كانت تلاحق المفرزة من قرية الى اخرى ، وكانت معركة كبيرة قادها الرفيق ( ابو جميل ) حيث كان الى يميني على قمة تل ّوهو الذي اطلق الرصاصة الاولى من بندقيته ( الكلاشنكوف ).
أما عن الشهيد البطل ( أبو إيفان ) فعند وصول الخبر المؤلم إلينا قرب قرية ( گارة )، أمر الرفيق ( أبو جميل ) بأرسال ثلاثة رفاق فورا ً لنقل جثمان الشهيد الى مكان آمن خوفا ًعليه من عبث جلاوزة النظام ( الجحوش ) ، فتم اختيار الرفاق ( أبو داود ـ الايزيدي ) الذي كان مسؤول المجموعة التي تعرضت للكمين ، وقد جاء الينا وكان مرهقا ًوحزينا ًوالرفيق ( أبو هديل ـ استشهد لاحقا ً ) والرفيق الثالث ( أبو انتصار ـ أنــا ) ، تحركنا فورا ً وصعدنا جبل ( گارة ) وكان البرد يتسلل الى عظامنا ، ثم هبطنا في الجهة الاخرى في وادي ( گلي آفوكي ) وعند وصولنا الى اسفل الوادي شاهدت الى يساره الكهف الصغير ، والحقيقة لايمكن تسميته كهف فهو انحناء بسيط مفتوح في جدار الوادي ، كان هناك يرقد جثمان الشهيد في المكان الذي تعرضوا فيه الى الاعتداء الغادر اثناء استراحتهم ، ولم يستطيعا الرفيقان ( أبو داود وناظم ) من سحب الشهيد لأن ( ناظم ) كان مصابا والموقف لايسمح بذلك ، ولأن القتلة كمنوا لهم من مكان مرتفع في الجهة المقابلة . كان الحزن يعتصر قلوبنا ويرسم هالته على وجوهنا ، تحركنا بسرعة ونحن نراقب سفح الجبل فالمكان خطر وغدّار ، حملنا الجثمان الطاهر لمسافة حوالي مئة متر مع انحدار الوادي ثم يسارا ً حوالي خمسون مترا ً بأتجاه ( مراني ) التي اصبحت لاحقا ً مقرا ً متقدما ً لقواتنا ، اسجينا جثمان الشهيد بين شجيرات كثيفة وبعد أن أفرغ الرفيق ( أبو هديل ) قنينة عطر على الجثمان ، غطيناه بورق الاشجار والاغصان بأيدينا حيث لم تتوفر لنا أية ادوات ، بعد ذلك التحقنا بالمفرزة الام التي عبرت الجبل الى جهتنا ثم وعند حلول المساء دخلت المفرزة الى قريتي ( سواري وسبندار ) اللتين كانتا عموما ً تتعاطف مع النظام ومنها كانت مجموعة عملاء النظام ( الجحوش ) التي تعرضت لرفاقنا وقتلت الرفيق الشهيد ( أبو إيفان ) ، ولاحقا ً ايضا ً الرفيقين الشهيدين ( أبو جاسم وهلال ) وهما من نفس القرية ! كان دخولنا للقريتين تحدي للنظام وعملاءه وكنا في حالة غضب ، واتذكر كيف تحدث الرفيقان ( أبو جميل وأبو ماجد ) بغضب مع آهالي القرية متوعديهم بملاحقة القتلة.
للأمانة أنا لا اتذكر التفاصيل التي ذكرها الرفيق ( أبو سعد ) عن المجموعة الثانية لدفن الشهيد ، لربما لم نكن لحظتها أنا والرفيقان الآخران قد وصلنا للمفرزة الام ، ولكن من المؤكد أن الرفيقين ( أبو داود و أبو هديل ) أو أحدهما شارك في عملية الدفن لمعرفتنا نحن فقط بمكان إخفاء جثة الشهيد ، ولم يكن هناك معنا أحد من ( حدك ) كما ذكر في مقاله.
في ربيع عام 2016 التقيت بزوجة الشهيد وابنه ، وحدثتهما عن الواقعة ، وقالا لي انهم مع رفاقنا في الوطن بحثوا عن مكان دفن الشهيد ولم يعثروا عليه ، وهم يتمنون أن يساعدهم أحد من رفاقنا الذين يعرفون مكان دفنه بالضبط ، وهم يدركون صعوبة الامر لاسيما وأن هناك متغيرات حدثت في الوادي حيث افتتح فيه شارع للسيارات .
المجد والخلود للشهيد النصير ( أبو إيفان ) وكل شهداء الحزب والشعب العراقي .