فضاءات

ذكريات لا تنسى عن أسرة اتحاد الشعب / فاضل عباس البدراوي

لأول مرة بعد مضي ربع قرن من صدور الصحافة الشيوعية بصورة السرية، تظهر الصحيفة المركزية للحزب الشيوعي العراقي (اتحاد الشعب) الى العلن، بعد ان اجازتها حكومة ثورة تموز المجيدة. كان ذلك في كانون الثاني من عام 1959، بعد ان عرقلت المجموعة القومية في حكومة الثورة بقيادة عبد السلام عارف من اجازتها، وقد اجيزت بعد تنحية عبدالسلام عن الحكم واستقالة المجموعة الانفة الذكر.
صدرت جريدة اتحاد الشعب بثمان، بالحجم الصغير، (نصف حجم الجريدة الحالية) لكون قياسات ماكنة الطبع التي تطبعها، كانت بهذا الحجم. من اول يوم لصدورها، تلقفتها جماهير الشعب بلهفة، وما كادت توزع على باعة الصحف والمكتبات حتى تنفذ بعد ساعات من توزيعها.
كلفت من قبل المسؤول الحزبي لمتفرعة التنظيم الحزبي لعمال المطابع والتي أصبحت عضوا فيها بعد ثورة تموز مباشرة، بالقيام بمساعدة شغيلة المطبعة التي تطبع الجريدة بعد نهاية عملي، كان ذلك في اواسط عام 1959 ، وفعلا اديت ذلك الواجب متطوعا بدون مقابل، لقد كانت المطبعة التي تطبع فيها جريدة الحزب تعود ملكيتها الى الشخصية الديمقراطية، المهندس الراحل فريد الاحمر وسميت المطبعة بأسمه، كانت المطبعة تقع في بناية بشارع الشيخ عمر، ولم تكن بناية المطبعة بعيدة عن دارنا التي كانت تقع في محلة فرج الله القريبة من ذلك الشارع.
بعدما كنت انهي دوامي في المطبعة التي كنت اعمل فيها، وهي مطبعة الاهالي، أأخذ قسطا من الراحة في البيت، ثم اقوم بتأدية واجباتي الحزبية، بعد ذلك اتوجه الى المطبعة بحدود الساعة التاسعة مساءً، حيث أقوم بمساعدة شغيلة المطبعة في مجالات التنضيد والطبع، كمساعد للطباعين والمنضدين وينتهي دوامي بحدود الثانية عشر ليلا واعود الى البيت.
لأول مرة تعرفت عن قرب على بعض قادة الحزب المسؤولين عن تحرير الجريدة، الذين كانوا يداومون او يترددون على المطبعة، اذ كنت في السابق اسمع بأسمائهم فقط، ها هو الرفيق الفقيد زكي خيري المشرف على التحرير، يقطع قاعة المطبعة ذهابا وايابا دون ان ينبس بكلمة الا ما ندر، كان الرفيق زكي مثقفا بارعا بالأخص في مجال الصحافة، لكنني لم اكن افهم سبب تجهمه في معظم الاحيان ولا تجد الابتسامة طريقا الى محياه، ربما من آثار السجون التي كان مقيما دائما فيها، الا انه بالرغم ذلك كان يداعبني احيانا ويسألني بعض الاسئلة عن الطباعة، أما الشخصية التي كانت محببة الى نفوس العاملين جميعا، وكان مقيما دائما في الجريدة، فهو الرفيق الشهيد الخالد، عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) صاحب العمود الساخر على الصفحة الاخيرة، (كلمة اليوم) كان أبو سعيد شخصية قريبة الى النفس، بسيطة، متواضعة، وكاتب ساخر قل نظيره في الصحافة العراقية، اللهم الا، الفقيد الخالد شمران الياسري (أبو كاطع)، كان الرفيق أبو سعيد يرتدي بدلة العمل الزرقاء، تراه يتنقل بين شغيلة المطبعة، يداعب ذاك ويسلم المواد المراد نشرها على الآخر، مع توزيع الابتسامات واطلاق النكات الشعبية بشكل يثير البهجة في نفوس العاملين، وقبل نهاية العمل
يعطي بعض النقود للعامل الكهربائي في المطبعة، الراحل عبد الستار، ليجلب لنا (اكلة الباجة) من مطعم باجة الحاتي المشهورة، ولم يكن يبعد عن المطبعة كثيرا، ويقوم بنفسه في فرش الاوراق التالفة على الارض ونجلس جميعا، عمالا ومحررين، لنتناول الباجة المصحوبة بنكات أبو سعيد، فهو معين لا ينضب للنكات، في معظمها مستقاة من الموروث الشعبي، وتتناول قضايا سياسية واجتماعية احيانا، بشكل ساخر كعاموده المنشور في الجريدة يوميا.
ولا انسى الشهيد الخالد عبد الرحيم شريف، رئيس التحرير الفعلي للجريدة والذي كان يترد على المطبعة بين فترة واخرى، كان الشهيد أبو رائد، هادئ الطباع، متواضعا لأبعد الحدود، يصافح العاملين فردا فردا عند مجيئه، كما انه كان كاتبا لامعا، كان من بين ثلاثة، زكي خيري، عامر عبد الله وهو، الذين يتناوبون على كتابة الافتتاحية التي تعبر عن سياسة الحزب الرسمية، ولا انسى الشاب الوسيم، الشهيد الخالد عدنان البراك، مدير التحرير الذي هو الآخر كان يتردد على المطبعة، كان هو الآخر يتسم بالتواضع والطباع الهادئة..
بعد استيقاظي من النوم وقبل ان اذهب للدوام، أمر على مركز توزيع الجريدة الذي كان يقع في احدى البنايات في محلة السنك، لأخذ حصة منظمتي الحزبية من المركز، وقد خصصت 25 نسخة للمنظمة، وكانت قليلة، حيث طالبت مرارا من مدير التوزيع الرفيق عزيز سباهي بزيادة الكمية الا انه كان يقول ان الاعداد المطبوعة لا تكفي، وكان رفاق المنظمة يتداركون الامر بقراءتها واحدا بعد الاخر ثم يناولونها للعمال الاخرين من غير الحزبيين اللذين كانوا يتلهفون لقراءتها لما فيها من مواضيع تمس حياتهم اليومية، لقد كانت عدد النسخ المطبوعة، عشرون الف نسخة! في ذلك الزمن الذي لم يكن يتجاوز نفوس العراق الـ سبعة ملايين نسمة، كانت اتحاد الشعب تنفذ من الاسواق والباعة بعد توزيعها بساعات قليلة.
هكذا كان شغيلة اليد والفكر في اتحاد الشعب يشكلون أسرة واحدة، تسودها الالفة الرفاقية.
انها ذكريات لا تنسى.