فضاءات

صباح مرعي حياة سعرها متواضع / رياض رمزي

" لنا أن نشكك في عدالة النسبة بين الخير و الشر، في الطبيعة شيء كثير ضدنا" روبرت فروست.
كان بيته مقرا للأصدقاء، لا تشعر أنك ضيف فيه و عليه. كان متمسكا بالحياة تمسك حلزون بحري بصخرة. عندما أصيب بالسرطان و تعسّر عليه التنفس، شعر أنه مرض جدي و ليس توعكا لأنه ألزمه المبيت خارج منزله فكان مثل رب عائلة يفضّل بيته بهوائه الحامض على قصر الضيافة. حينما رأيته آخر مرة، يومين قبل وفاته، و كان جالسا على الكرسي رقبته متيبسة و علاقته بالحياة تتحدد من خلال أنبوب مطاطي، أشبه بحمامة جناحها مهيض، ما أن تشرع بالسير جارّة جناحها جتى تدرك أن لا سلطة على ملكية جسدها برغم أنه مسجّل باسمها منذ الولادة. فكرت كيف لا يرتعش قلب من يجلس سحابة أيامه لشهور على كرسي بدون تذمّر و بإذعان. فلو وقف شخص ما ساعة مستندا على جدار لأرتعش قلبه من حالة مفروضة عليه، حالة نُزعت عنها الرحمة. لم يكن وجهه الشمعي اللون مشغولا بإخفاء عجزه الجلي. لم يكن أبدا كآدم الذي قام الرب باقتطاع ضلع قرب خاصرته ليصنع منه المرأة، فجلس على كرسي تحت شجرة سدر يتحسس خائفا مكان جرح الضلع. ربما كان آدم قد حصل على ضمانات تقول له أن الحياة مسرح و لكن فترة صلاحيتها ستستمر طويلا كما أسرّ الخالق في أذنه. و برغم أن صباح لم يتوفر على ضمانات كتلك، فلم يكن كلامه و سلوكه يشيان أنه، بسبب غياب تلك الضمانات، قد ملّ عشرة الحياة. كان يسحب خرطوم الأوكسجين كي يلقي جملة كمن يلوك طعاما. كانت لديه الجرأة لقول كلام واع برغم تساقطه من فمه كفتات خبز. لم أشعر أنه كلام شخص قلق يرى أيامه تتآكل فراح يتصرف كمن يدرك أن فرصا أكيدة ما فتأت تتساقط من بين يديه. كان يجاهر في كلامه و أيماءاته كي يقول أنه ليس من ذلك الصنف الذي بردت همته في الحياة، و ذلك عندما أسمعني رأيه في محاضرتي الأخيرة. كان مزاجه ما زال مزاج من هو مؤهل للعيش زمنا طويلا. فبرغم قامته التي كانت تنوء تحت ثقل أنبوب الأوكسجين و جو المستشفى الذي أضاف بطئا و ثقلا عليه، هو الذي كانت الحياة تدب في بيته كل صباح، فأن الشيء الوحيد الذي ما كان يحتمله هو غياب الحركة، الحوار الأصدقاء، مثل صاحب مقهى يرش في الصباح الباكر مدخل مقهاه منتظرا قدوم القصّاد إليه كي يناقش و يستمع لآراء في غاية الخطورة. عندما شاهدني رفع إبهامه إلى الأعلى شاكرا مجيئي. جملة قالها بصوت مشحوط و لكنه ليس صوت امرأة ستبدأ فترة حدادها قريبا. أجبته هذا أقل ما أستطيع فعله لك. أراد في تلك اللحظة أن يجعلني أستمتع بإبداء كرمه في طريقته المعهودة في الترفع عن اللوم، كي لا أفقد الرغبة في الكلام. كان كعادته لا يسعى لإرتكاب خطأ يعطي شكلا يشبه ذلك الذي يعتور مريضا يقول لزائريه مشيرا بيده إشارة التوقف" اسكتوا لقد وصلت طلائع الآلام إلى الرقبة".
لم يستمر اللقاء بيننا لأكثر من ثلاثين دقيقة. داهمتني صور كثيرة و أنا أتأمل فترة معرفتي به منذ خمس و عشرين عاما، حيث استرعى انتباهي مذ رأيته أول مرة، ديناميكيته الموجهه ضد جسده المثقل بالعلل، و كأن الحياة متاحة له بالطول و العرض.
أعرف أن هناك من قال عندما تفكر بالكتابة عن شخص دع مزاياه تأتي إليك. حسنا ما هي أهم خصلة لديه؟. أنه التبذير. كي تعرف شخصا ما عليك معرفة ما الذي يحرص على عدم الاحتفاظ به. هي النقود لدى صباح. فقدانها لا يحزنه. فلسفته يمكن اختصارها بما يلي: إن جرّدتَ الحياة من النقود فستعيش وفقا لطبيعتك. غياب النقود لدى صباح تطهير للنفس. أنه يقول أن الإنسان أكبر من النقود لأنه صانعها، و من الصعب أن تصنع شيئا و يعود ليصنعك. قلت كيف يا صباح؟. قال لأن وجودها يظل جاثما عليك، فتنتهي حياتك بأن تكون مثل بائع ملابس لا يلق بالا لنوعية ملابسه، بل ينتهي أن يكون مروّضا من ورق و معدن، إن أستعبدا الإنسان لا يستطيع تعديل تأثيرهما عليه. قلت له عداؤك إذن للنقود نابع من الخوف من الخضوع لها. قال نعم الكرم ليس فعلا غير واع، بل هو موقف معاد للإكتناز. قلت له هذه الإجابة تفترض سؤالا. ما هو قال؟. قلت الاكتناز سلوك رأسمالي و أنت ضد الرأسمالية أليس كذلك؟. قال أنه ليس عداء بل هو دعوة للكرم. قلت حسنا هل الكرم يتوافق مع المبادئ الشيوعية التي تحملها؟ قال نعم جعل النقود إلها يضعف عطاء الشخص و يوقف قدرة البذل و ذلك هو جوهر نضال الحزب الذي أنتمي إليه.
أتساءل الآن بعد رحيل صباح : إن كان الله يحاسب عباده حسب ما في صدورهم، فما هو شكل الحساب الذي ستجريه الملائكة مع صباح سواء في القبر أم في ثلاجة المستشفى و ما هي نتائجه؟. قلت لنفسي أن الملائكة التي ستتجشم وعثاء السفر من بلاد الرافدين حتى لندن ستدخله الجنة حتى و إن كان قد خسر جزء من نقوده في كازينو فكتوريا للعب القمار. بوسعي الآن قراءة جزء من تقرير الملائكة عنه" تقرير سري مرفةع من الملائكة إلى السيد الخالق. إن لزمنا جانب الإنصاف و كما هو الحال مع كل الشيوعيين فقد عاش الموما إليه عيشة نزيهة، لا توجد لديه خطايا جدية تشكل مصدر اتهام جدي له، هذا إذا لم تكن الطيبة خطيئة تستحق لديكم العقاب عليها، و برغم أنه ارتكب خطأ الزواج من أجنبية أحكمت قبضتهها عليه حتى مماته، فكان يعاني من خطر غياب المحبة. فهي جاءت في أواخر أيام حياته كي لا يكون شيئا من أسلابه بعيدا عن متناول يديها، مدركة أنه في حالة انعدام التكافؤ فأن من يحصل على أكثر الغنائم هو ذلك الذي يرابط في موقعه جيدا. نترك تقدير الأمر لكم إن كنتم تعدون ذلك ضعفا، سذاجة أم طيبة، أم أنكم أنتم من قررتم أن تزرعوا فيه استعدادا فطريا للتضحية، ككل أفراد فصيلته. أخيرا فأن المتوفى صباح مرعي ليس بالسوء الذي يتم وصم الشيوعيين به، وهي تهم تحاول الأحزاب التي تدعي الإنتماء إلينا إلصاقها بهم. حُرّر المحضر في ثلاجة مستشفى الجامعة في لندن صباح اليوم الموافق التاسع و العشرين من رمضان عام 1436 هجرية".