فضاءات

رحيل صاحب "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" / د. حسان عاكف

إقترن التعرف على عزيز سباهي بالنسبة لأبناء جيلنا بكتاباته عن الزراعة والواقع الزراعي والاصلاح الزراعي في العراق، إضافة الى اقتران اسمه باسم شقيقه الشهيد صبيح سباهي الذي جرت تصفيته في اقبية ومعتقلات انقلابيّ ٨ شباط الاسود.
لقاءاتي الاولى مع الفقيد ابو سعد كانت عام ١٩٨٣ في دمشق حين جاء قادما اليها من الجزائر للتفرغ الى العمل في مجلة “الثقافة الجديدة” و العمل الثقافي والاعلامي.
جمعتنا لقاءات واجتماعات حزبية مشتركة عديدة في فترة وجودنا في دمشق، حيث كان هو ضمن لجنة الاعلام والثقافة وكنت ضمن لجنة العلاقات الوطنية. وكان الفقيد واحدا من الرفاق الذين كنت حريصا على الاصغاء لمداخلاتهم وتحليلاتهم والتعلم منها.
افترقنا منتصف الثمانينيات، لنلتقي مرة اخرى نهاية تسعينات القرن الماضي في كردستان وسوريا.
ذات إجازة زرت دمشق قادما من شقلاوة التقيت الراحل عزيز سباهي هناك. في تلك الفترة كان ابو سعد يحمل قلمه واوراقه وحقيبة سفر مليئة بكتب تتعلق بالمهمة التي اخذ على عاتقه انجازها، اكثر مما كانت تحتوي من حاجات شخصية اساسية لمسافر كان يتنقل بين مدن كردستان العراق الخارجة عن سيطرة الدكتاتورية ودمشق وبيروت ومدن اوربية اخرى للقاء بسياسيين وباحثين واكاديميين، معمرين ومخضرمين على وجه الخصوص، من مختلف الاتجاهات ممن كان يعتقد انهم يمكن ان يساعدوه في اكمال المهمة الشاقة، التي تطوع لإنجازها، والمتمثلة في انجاز كتاب "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي”.
سألني ان كنت راغباً بمرافقته لزيارة “محمد علي الزرقة”، أحد الطلبة السوريين الذين قدموا من لواء الاسكندرونة بداية اربعينيات القرن الماضي لإتمام دراسته الجامعية في بغداد. رحبت بمقترحة وفرح غامر يتملكني، اذ من اين لي ان احظى بمثل هذه الصدفة النادرة للقاء هذا الرجل الذي كنت قد قرأت كيف ان قوميته وعروبته التي حملها معه من الاسكندرونة الى بغداد لم تمنعه من التأثر بالفكر الماركسي، الذي قاده الى الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي، وحظي بالتعرف على باني الحزب يوسف سلمان(فهد) وقادة الحزب الاخرين، ويحضر مؤتمره الاول عام ١٩٤٥ ،مندوبا عن محلية بغداد واللجنة الطلابية، قبل ان تسقط السلطات الملكية الجائرة آنذاك عنه الجنسية العراقية وتعيده الى دمشق. زرنا الرجل في شقته في مساكن برزة(مسبقات الصنع)، كان رغم بلغوه الثالثة والثمانين يتمتع بصحة جيدة وحيوية واضحة وذاكرة متوقدة، وبعد ان اعد لنا القهوة، راح يسرد لنا الكثير من القصص والحكايا والمواقف التي عاشها اثناء دراسته في بغداد عموما، وفي داخل الحزب بشكل خاص، بما فيها سكنه في بيت واحد مع سكرتير الحزب فهد لعام ونصف العام، وعلاقته مع زكي بسيم. كان بعد ان يرد على أسئلة واستيضاحات ابو سعد ينهض الى زاوية في رف من رفوف مكتبته، التي كانت تشغل جدران صالة الاستقبال وغرفتين اخريين في الشقة، ليستل منها مجلة او كراسا او كتابا يعود اصداره لعقد الاربعينيات، يتعلق بموضوع السؤال.
حين غادرنا مضيفنا “ضربنا على الخشب” ونحن مستمرون في الحديث عن الشيخ المخضرم وتوقد ذاكرته وصفاء ذهنه وحلاوة اللقاء معه. ثم فجأة سألني ابو سعد هل تعرف الى جانب فرحي بلقاء مناضل التقى الرعيل الاول من الشيوعيين العراقيين وعمل معهم، وفرحي بهمته وصحته واحاديثه الشيقة، فانا فرح بشعور داخلي خاص اثارته لدي طريقة مخاطبة الرجل لي، هل انتبهت اليها؟. قلت للأسف لم انتبه للأمر. رد ابو سعد؛ لقد كان يخاطبني بكلمة “ابني”. أنا الزاحف نحو الخامسة والسبعين هناك رجل يتحدث معي باعتباري ابنه، هذا لم يحدث لي ربما من اكثر من نصف قرن، كم هو مثير ومؤثر، عدا كونه غريباً ، ان تجد وانت في هذا العمر من يخاطبك بكلمة “ابني”.. !. ابتسمت ووجدتها فرصة للمزاح مع ابو سعد وخاطبته: “قالت يا إبني لا تفرح فالحزب عليك هو المكتوب”.. ضحكنا بصوت أثار انتباه المارة في الشارع، وواصلنا السير نحو محطة الباص.