فضاءات

الأم بهية الزركاني (أم طه) حضور بهي ورحيل مؤلم ! / رياض قاسم مثنى

في آذار الربيع، آذار المحبة وفي الثامن منه تحتفل البشرية جمعاء بيوم المرأة العالمي، اليوم الذي تجاوزت فيه نضالها الأسري فقط ، كونها تسهم في تربية النشء حصرا ، لتنتقل الى المشاركة في صنع القرار ، وشواهد التاريخ مليئة بالصفحات المشرقة لدور المرأة في عملية التغيير، وسفر التاريخ يسجل بحروف من ذهب دور المرأة العراقية في التصدي لجور القوانين المتخلفة وكذلك للانظمة الدكتاتورية الفاسدة.
ننثر الورود على هاماتكن وننحي اجلالا لتضحياتكن يا من زرعتن البسمة على شفاهنا وكنتن بحق بلسما لكل الجراحات. امهاتنا اللواتي تحملن عبئا مضاعفا . وبمناسبة الثامن من أذار ، اقف امام سيدة فارقتنا قبل شهرين عن عمر يناهز الثمانين عاما. انسانة تركت بصمة في نفوس محبيها ومن عرفها عن قرب، وفي الوقت نفسه غصة على الم فراقها، انها بهية الزركاني (ام طه) التي لم يتوان محبوها في التعبير عن حزنهم لفراقها على صفحات التواصل الاجتماعي لما لها من مكانة في قلوب محبيها.
تعود معرفتي بالراحلة، المناضلة ام طه الى شهر شباط من عام 1985 في مديرية امن الكرخ، وشاءت الصدف ان تكون مع زوجها (حسين رهك) وبناتها (ماجدة واحلام التي لم يتجاوز عمرها الاحد عشر عاما) قرب الزنزانة التي أودعت فيها، بعد ان تم تفريفقها عن ابنائها ( ابراهيم وعلاء وماجد) والذين اعتقلوا بتهمة الانتماء الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، كان لها موقف لن أنساه ما حييت اذ انقذت حياتي من تهور احد الجلادين واسمه (خالد الكاولي) اذ كان يسخر من المعتقلين بابتكار وسائل للتعذيب، ومرة وضع "الشناطة" على رقبتي وسحبها بقوة، لولا صرخة ام طه المدوية به كدت افقد حياتي ( ووقتها فقدت الوعي لدقائق وكان وجه أم طه، اول وجه اراة بعد الحادثة امامي، اذ كانت تحتضن رأسي وتمسد عليه والدمع في عينيها)
كنت اتعجب ، ومعي المعتقلون الاخرون ، على قوة تحملها، في سماع صراخ ابنائها اثناء التعذيب ولم تبد اية حالة ضعف امام الاخرين. ما لفت انتباهنا اثناء ساعات حفلات التعذيب (كما يطلق عليها جلاوزة البعث) هو إصغاؤها مع زوجها الى صوت الضحايا من خلال فتحة الشباك ومسكها يد زوجها وكأن لسان حالها يقول هذا ابراهيم او علاء او ماجد، بعد الانتهاء من سماع الصوت تعود الابتسامة الى وجهوهم .
ما أذهلني أكثر هذا الحب إلى حد العشق ما بينهم. حتى اني سألت ابو طه ، وذلك بعد ان تشظت العائلة بالاحكام القاسية ما بين المؤبد والاعدام وانتقال النساء الى سجن الرشاد والأبناء الى "أبو غريب"، وبتحريض من الصديق الغالي والحبيب الى القلب ابنهم علاء ، الذي استشهد عام 1991 ولم تسلم جثته الى ذويه، عن سر الاهتمام بنفسه، والذي يبدو أكثر من اللزوم، في يوم مواجهة ام طه، اذ سمح للسجينات باللقاء مع اهاليهم من الدرجة الاولى من السجناء في سجن ابو غريب. كان ابو طه يضحك رغم المرارة الكبيرة لفقدانه أبناءه وداره، اذ صودر البيت بقرارمحكمة الثورة السيئة الصيت من قبل المقبور عواد البندر، ولكنه يعيد ويكرر اجمل كلمات سمعتها في حياتي " اشلون ما ارتب حالي وباجر اشوف احلى احبيبة في حياتي " . كنا نسأله عن ادق تفاصيل المواجهة (انا وعلاء) ونتيجة لالحاحنا كان يردد "يا جماعة مو بيدي احبها... احبها ،اش عندي غير ام طه" .
سقط النظام الديكتاتوري وكانت المناضلة ام طه مع ابنائها واحفادها اول من التحق بمقرات الحزب الشيوعي، كفنانين ورسامين، مساهمين في فتح مقرات الحزب . وكانت ام طه اكثرهم فرحا بزوال الدكتاتور الذي سرق اجمل احلامها. للاسف لم تدم فرحتها طويلا فعادت نفس العصابات لتغتال أبناءها في تفجير في مدينة البياع اذ استشهد كل من (ابراهيم وكريم).
آه كم كان يوما قاسيا ايتها الام العظيمة ! من يستطيع تحمل هذة القسوة بمثل هذا المصاب الجلل بعد كل ما جرى ؟ لكنها لم تيأس وواصلت حياتها وهذه المرة عوضها عن غياب ابنائها وجود أحفادها الرائعين الذين اختطوا طريق أجدادهم وآبائهم .
لك المجد يا من زرعت المحبة والابتسامة والقوة في نفوس محبيك ، لك باقات الورد ، ولكل الامهات اللواتي زرعن الامل في نفوسنا ... نقبل جباهكن وجباه كل النساء أمثالكن ونضع أكاليل الورد الاحمر على شواهد قبوركن ..