- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأربعاء, 06 نيسان/أبريل 2016 19:02

تلك الجذوة المتقدة في ضمير الوطن والناس ، هي سر قدرتنا على حمل ثقل الامانات المطرزة بالوفاء والحب و التضحية، والتي لها نحيا وبها نعيش.
اتصلت به عبر الهاتف وطلبت منه ان تلتقيه وهو صديقها الاقرب وتبوح له بمكنونات نفسها وتستشيره عند قيامها باية مبادرة تخطر على بالها قد اعتادا على ذلك في فترات متباعدة،
- اهلا وسهلا كيف صحتك واخبارك
قالت : كما هي وانت تعرفها وزادتها بؤسا الاوضاع المتردية
- اعرف ذلك ولكننا جزء من منظومة شعب يناضل كي يحيا ويعيش
قالت : بودي ان التقيك غدا الساعة الثانية عشرة في المقهى ذاته في باب المعظم
- نعم سأكون هناك لاشتياقي اليك ومعرفة اخبارك صديقتي
في منتصف ذلك النهار كان في انتظارها وجاءت تحمل همومها التي غيبت نضارة وجهها وترهل جسدها الا انها تبدو متماسكة وبريق عينيها ما زال متقدا بحيوية ، عرفها لم تتوقف عن مبادراتها ونشاطاتها وحواراتها ،نهض عن كرسيه وطغت على وجهه ابتسامة عريضة رحب بها وصافحها بحرارة وجلسا سوية
قال لها : شلونك؟ ضحكت وقالت : يا صديقي للمجتمع إشكالاته فانتم ونحن كنا من سجناء الرأي والمفارقة حين اطلق سراحنا تزوجتم وأنجبتم انتم الرجال وأنشأتم بيوتا، اما نحن فقد بقينا كما نحن لم يطرق أبوابنا احد، والعمر قد مرت به محطات كثيرة، تصور حتى اللحظة ومن اربعة سنوات وانا في انتظار الحصول على حقوقي من مؤسسة السجناء والمعتقلين السياسيين من دون طائل رغم مراجعاتي المتكررة ، اطرق برأسه وقال : ما جديدك الان وانت حاملة هموم الفقراء او كما يحلو لي تسميتك بمنظمة مجتمع مدني جوالة.
قالت : بالاضافة الى زياراتي الى تجمعات النازحين وتفقدي لسكان العشوائيات وتقديم ما استطيع من معونات اجمعها من اصدقاء ومعارف فقد قمت بطبع كراس اعددته عن الاصابة بسرطان الثدي وطرق الوقاية منه على حسابي الخاص لنشر الوعي الصحي بين المواطنات وقمت بتوزيعه مجانا في الاسواق، ومواقف الباصات، ابتسم وقال : متوددا ما زلتي كما انت تلك الشعلة المتوهجة بالنشاط وحب الخير، كم انا محظوظ بمعرفتك..؟
اشعل سيجارته وارتشف من قدح الشاي وعادت به ذاكرته الى ما حدثته به ذات يوم:
كنت متحاملة على اليسار وما اشيع عنه من الحاد في محاولة لابعاد الجماهير عنه ولكن معايشتي الطلبة الشيوعيين اثناء دراستي في اكاديمية الفنون الجميلة جعلتني ادرك الخطأ الذي توهمته او اوهمت به
وحين اخترت طريقي مع الحزب كنت اريد تعويض ما فاتني من فترات انقطاع فكنت اعمل بحماس واخلاص، وقد كرست كل جهودي للعمل اجتماعات وعمل تثقيفي حتى إنني كنت انسى تناول وجبات طعامي ومع كل هذا اشعر بالتقصير اتجاه العمل الجماهيري
في حقيقتي، انا عاطفية حتى ان عاطفتي الغت التفكير المنطقي والعقلاني لدي حيث اقسمت في حالة انتزاع البراءة من الحزب مني، سأعمد الى حرق نفسي في ساحة الميدان المعروفة وقد أتيحت لي فرصة على طبق من ذهب للسفر خارج العراق ايام المحنة اواخر السبعينيات الا انني رفضت ذلك وقررت مواجهة مصيري بنفسي حينها كنت اعتقد ان سفري إلى خارج الوطن يشكل خيانة لمبادئي ومن مبررات بقائي حرصي وايماني على العمل وفق اقسى الظروف
شاءت الظروف ان اقع في قبضة الامن وعذبت تعذيبا وحشيا شديدا باستخدام الكي بالكهرباء والفلقة والتعليق ولكن اشدها كانت تلك اللحظة التي واجهت من اعترفت علي لتشكل صدمة قوية وإحباطا شديدا، عرفتها رفيقة رائعة جدا وكنت اكن لها احتراما وودا كبيرين لكن ليست هناك مراهنات على سلطان السوط والتعذيب والاهانات
هزتني المفاجأة ورغم مواجهتي بها انكرتها بكل برود وقلت لها : انا لا اعرفك ومن الذي دفعك لتقولي هذا، ربما ذلك الشخص الذي اراد ان يخطبني ورفضته كان قد أملى عليك ذلك لتنتقمي مني، كنت اشعر بغيبوبة جراء التعذيب الوحشي الذي استمر طوال ساعات الليل وتسرب الشك الى نفسي في ضياع فرصة النجاة والامل في الحياة، وكم كانت تلك الدقائق ثقيلة صادمة لي حين امروا برفع العصابة عن عينيّ لأراها مسكينة ذابلة منهارة يغطي جسدها الدم وقالت بصوت منكسر نعم سيدي هي هيام ، كل شيء يهون الا الخيانة والغدر ولم يخطر في بالي انهيارها في هذا الشكل المأساوي، اعترافها كان سكينة حادة تركت جروحا عميقة في نفسي ولانها واجهت خلاصة البربرية والسادية من فصول التعذيب فالتمست لها العذر في قرارة نفسي.
كان ضابط الامن المحقق محتاراً وهو يلاحظ برودة اعصابي وبريق عيني وكان يتوقع انهياري واعترافي بعدها اخذت قسطا من التعذيب والاهانات البذيئة ثم ارجعوني إلى محاجر الامن العامة.
بعد مرور اسابيع نودي عليّ ليطلقوا سراحي، وكنت اظن ان صمودي هو من جعلهم يطلقون سراحي لكني عرفت حقيقية ان مديري كان وراء إطلاق سراحي حين توسط لدى مدير الامن العام.
عدت الى دائرتي ولكن إحساسي بأنهم ما زالوا يلاحقونني ويتابعون خطاي ولن يكفوا عن ذلك، لذا وخلال سنتين غيرت عشرين مكانا من اقصى الحدود التركية حتى خانقين وكان لا بد لي من الاعتراف في ذلك لإعلامي كبير معروف وقف الى جانبي في محنتي تلك. امضيت شهورا في الشمال وقبلت دعوة صديقي الاعلامي إلى بيت عائلته في بابل وامضيت ستة شهور كاملة كان الجيران يسألون دائما عن سبب تواجدي في تلك الدار عندها ادركت ان لا خلاص لي الا في مغادرة الوطن، وقد امن لي الصديق الاعلامي شاحنة تركية لتهريبي خارج الوطن ولكن المهرب رفض مسوؤلية تهريب فتاة وقال : لا يمكنني تحمل مثل تلك المسوؤليات،
اثار هذا القرار الغثيان في نفسي وغطيت وجهي بكفي وشعرت بحزن وقلق ولكن لم يتسرب الى نفسي العجز باتخاذ القرار وقلت كفى كل شيء يهون في سبيل ايماني بقضية شعبي ومبادئ حزبي.
شعرت بألم وقررت العودة إلى بيتي بخطى ثقيلة لمواجهة مصير مجهول وبانتظار بزوغ فجر جديد.