فضاءات

ساعات قاسية جمعتني مع شاعر الشعب محمد صالح بحر العلوم / نعيم النهر

بمناسبة ذكرى رحيله، سأكتب بتركيز موجز وهو ما ينبغي. فالكتابة هي اشق الاعمال صعوبة وخاصة الكتابة عن الماضي، ولكن للحقيقة والتاريخ احكامهما.
كنت طالبا في الاعدادية الشرقية الخامس العلمي عام 62- 1963. كنا نقود طلاب الاعدادية في تنظيم اتحاد الطلبة، ومسؤولنا حبيب محمد، عندما حدث الاضراب المزعوم الذي قاده قلة من المجرمين اعداء الجمهورية من البعثيين وغيرهم.
في البداية تركز الاضراب على الاعدادية، حيث اقتحم مجموعة من المجرمين والشقاوات ساحة المدرسة ونحن فيها واعتدوا بالضرب على مجموعة مشخصين من اعضاء الاتحاد. كنا ثمانية نقل قسم منا بسيارة اسعاف الى المستشفى. ورغم ذلك لم يتمكنوا من إحداث بلبلة او تخلخل في الدوام. وقد ادى جميع الطلاب امتحانات نصف السنة واذكر ان الطالب مناضل المهداوي كان معنا في الصف الرابع العلمي وشاركنا في التصدي ببسالة.
بعد وقوع انقلاب 1963 الدموي واذاعة البيان رقم 13 بقتل الشيوعيين اينما وجدوا، وفي الساعة الثالثة ليلا، اقتحمت دارنا مجموعة مسلحة. اسرعنا انا واخي الكبير الى سطح الدار وتمكنا من الاختفاء على السطح الملاصق لجيراننا. فتشوا عنا في كل مكان وخرجوا. اخي الكبير الذي كان مطلوبا اكثر مني توجه الى ايران واعتقل هناك. اما انا وعند استئناف الدوام بعد عطلة نصف السنة، واجهت الكثير من الاعتداءات والاعتقالات والضرب من قبل الحرس القومي في الطريق او في المدرسة.
في وقتها كنت اتخلص منهم بشتى الطرق لا سيما وان عمري كان لا يتجاوز الثامنة عشرة، وكنت قد نلت شرف العضوية عام 1962 استثناء من العمر، تقديراً لنشاطاتي المتعددة.
لم يكتشفوا تنظيمي في بغداد الجديدة حيث كنت مسؤولا عن خلية مرشحين. انهيت الاعدادية بنجاح وانا مستمر في الاتصالات مع رفاقي حتى ليلة 1/ 11/ 1963 حين طرق بابنا خمسة من الحرس القومي مسلحين يقودهم ناظم كزار (عرفته في ما بعد) وضعوني في مؤخرة سيارة ستيشن. توقفت السيارة على شارع القناة القريب من دارنا، وقال لي المجرم ناظم: لا تتعبنا، نأخذك وعليك ان تدلنا على جماعتك هنا. وبعد ضربات على وجهي وعندما يئسوا اتجهوا الى ان وصلوا ودخلوا وزارة الدفاع وفي البناية سمعت فيما بعد انها كانت محكمة الشعب. وفي غرفة التحقيق ربطوا يدي من الوراء بحبل وسحب الحبل وتعلقت، وبدأ الضرب في كل مكان من جسمي بالعصا والاسلاك الغليظة.
لم اعد اشعر بالضرب لكثرته وتخدر جسمي وفقدت الوعي. التعليق من الوراء هو اعدام بطيء. وبعد ساعات من التعليق طرحت ارضا ولم افق الا صباح اليوم الثاني وانا في غرفة صغيرة معبأة بالمعتقلين. نظرت اليهم وآثار التعذيب على اجسامهم ودماء جافة على جدران الغرفة. وفي باب الغرفة وضعت صفيحة للبول، ثم بعد فترة قادوا الموجودين الى المرافق الصحية. اعانني احدهم على السير معهم، وبعد نصف ساعة اعادونا الى الغرفة وجلبوا الشوربة الرديئة مع صمون جاف.
في الليل سحبوني سحلا الى غرفة التحقيق واشبعوني ضرباً لأنني لم اعترف.
في غرفة التحقيق كنت واقفا مع مجموعة مثلي. علق احدنا وكان بدينا، وبدأ الضرب القاتل عليه حتى نزف دما. وسال دمه بين اقدامنا وفارق الحياة. وعلمت في ما بعد ان الذي يموت من التعذيب يشدون حديدا في قدميه ويرمونه في نهر دجلة القريب من البناية. استمر هذا الحال اياما ولم يرسلوا عليّ، وكما اظن انهم انشغلوا بغيرنا. في الليل كنا نسمع عويل المعذبين وصراخ النساء، وفي غرفتنا لا فسحة كي ننام على ظهورنا بسبب تزايد المعتقلين. واحيانا يأخذون منا معتقلين للتعذيب، والذي لا يعود نعرف انه مات.
في احدى الليالي فتح باب غرفتنا المظلمة ورموا علينا جثة انسان تنزف دما. وقفنا جميعا، فسحنا له مجالا ليجلس. في الصباح رأيناه صامتا وشامخا والدم لا يزال ينزف من انفه.
عرفناه، انه محمد صالح بحر العلوم شاعر الشعب، وكان قد جاوز الثالثة والسبعين آنذاك. انه شاعر قصيدة "اين حقي" الشهيرة. مجدا وخلودا له ولمسيرته.
وجاء انقلاب 18 تشرين الثاني حيث تفرقنا الى معتقلات اخرى. وعندما خرجت من المعتقل كنت فخورا بنفسي لاني لم اعطهم شيئا. وكنت سعيدا لان السعادة في النضال. خرجت وكنت اعاني آلاما مدمرة، واجريت لي عملية فتح صدر بعد سنوات من خروجي، وخمس عمليات لعيني اليسرى التي ظلت منطفئة لحد الآن، وطاقما لاسناني. وما زال الخدر في يدي.. واحيانا اقع في حالة اغماء.