فضاءات

"أوراق توما توماس" .. قراءة متواضعة لســيرة ناصعة .. لإنسان نصعت روحه بالقيم !/ عبد اللطيف السعدي

كنت قد سمعت به وبمآثره، قبل أن ألتقيه لأول مرة، في مقر محلية نينوى، حين كنت في زيارة للمقر برفقة أحد رفاق المنظمة لتأكيد صلتي بالحزب، أواسط سبعينات القرن الماضي، وقبل انتقالي من إحدى قرى منطقة الجزيرة غرب الموصل (مويلحات)، حيث كنت أقوم بمهمة التدريس في مدرستها الإبتدائية، إلى مدينة تلّعفر بعد ما يقرب من أربع سنوات فيها. وصدقا أبهرتني طلته رغم مظهره البسيط المتواضع، ومنذ اللحظة الأولى تلمست قوة بصيرته، وحدة حسه الأمني أو الرفاقي الكبير، حيث حرص على السلام مع نظرة متفحصة لهذا القادم الغريب.
نعم كنت قد سمعت عنه أقاصيص وكأنها حكايات أساطير، عن شجاعته وتحديه للسلطات في مدينته الصغيرة القوش. قصص كان يتناقلها طلاب الجامعة بدءاً من بني المدينة الحمراء، أو هكذا كانت تسمى، والمناطق القريبة منها. وأنا أقرأ صفحات كتاب الفقيد الجميل أبا جميل "أوراق توما توماس"، حظرتني كل تلك الروايات، بل وأحيت في روحي سلسلة أحداث كنت جزءاً منها وإن على الهامش, ومن المؤكد شاهد عيان ومشارك فاعل في الكثير منها. نعم راودتني صور متداخلة، وأحيانا لها تسلسلها التأريخي، فتأكدت لي مواقف كنت أعتقد وأفكر فيها خلال تجربة الأنصار الناصعة في تأريخ الحزب الشيوعي والوطن، خاصة وأنني كنت قد عشت قرب الفقيد وقريبا منه بحكم اختياري عنصرا في فصيل حماية قاطع بهدينان، إلى جانب كوني عضواً في مكتب إعلام القاطع، ومنذ اضطرار قيادة القاطع للانتقال إلى مقرات جديدة بعد التهديدات التركية بقصف المقرات، والإستقرار في مقر زيوة التأريخي. وكان هذا الحدث بحد ذاته أحد حوافز الاسترجاعات لما حدث وقد أحيتها في الذاكرة سرديات أبو جميل الصادقة والواقعية. نعم أعادتني كلمات الفقيد توما توماس إلى تلك الأيام، بل أحيت فيّ مواقف في لحظات عصيبة كنت أظن أنني أختلف معه فيها، بل ربما حملته مسؤوليات عدم التصدي لها والعمل على تغييرها وهو الأول في سلسلة مسؤوليات القاطع والحزب. ومن خلال قراءاتي المتمعنة اكتشفت كم كنّا متفقين في النظر إلى مسيرة الأمور وكيفية إحداث نقلات نوعية في عمل الأنصار، وربما بقيت واحدة فقط ، ربما تأكد فيها الإختلاف وتلك هي الموقف من العلاقة بين العمل الحزبي والسياسي، وهما الأساس، والعمل الأنصاري بتشكيلاته وأساليب عمله ونشاطه، باعتباره شكلا رئيسا من أشكال الكفاح السياسي وليس هو الأسلوب الأوحد، وأن اللجوء إليه إنما كان بهدف ترسيخ وجود الحزب داخل الوطن، وإعادة بنائه، وعرقنة الكفاح باشكال,واساليب متنوعة وفقا لأوضاع كل منطقة من مناطق العراق.
لقد تفاعلت مع كل سطر من الكتاب، وفيها أحداث أعادتني إلى أسباب فرح ومرح، وأخرى إلى دواعي حزنٍ وألم، بل إلى غضب كان سببا لخلق إشكالات لي وتعقيدات في وضعي الأنصاري وربما الحزبي. وتركزت تلك الأحداث في مسيرة وسيرة الفقيد العزيز ابي جميل (أو أبو جوزيف)، خلال التجربة الأنصارية الأخيرة قبل حملات الأنفال الإجرامية، والتي أفضت إلى انهيار الحركة إلى جانب مسيرة البيشمركة بشكل عام لجميع قوى الكفاح الكردستانية حينها (الأعوام بين أواخر السبعينات والثمانينات من القرن الماضي).
قرأت الكتاب إذاً، من أوله إلى آخر كلمة ناصعة بالصدق سطرت فيه، وأنا مشدودٌ وفي مركب متناقض من الفرح، والفخر والغضب. فقد عشت وبشكل جديدٍ، ومرة أخرى تلك التجربة التي لا يمكن وصفها ببساطة، لما اتسمت به من عمق في الإيمان، واستعدادات للتضحية بالنفس، والصلابة في مواجهة العدو الدكتاتوري البغيض، ونصاعة الصدق، وسعة التعقيدات التي رافقتها على المستويين السياسي والتنظيمي. فهي أنصع وأجمل تجربة مرت في تأريخ العراق المعاصر، وتأريخ ومسيرة الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية والديمقراطية الجدية والصادقة في خدمة قضايا وتطلعات شعبنا المضام.
توما توماس ظهر وأكد مرة أخرى وإلى الأبد في كتابته وصدق كلماته، أنه ذلك الصادق المعتد بقامته الطويلة، بكل المعاني القيمية والأخلاقية. ذلك المتهيئ في ذهنه والمتحفز الحاضر لاتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة. أنه ابن الحزب وأهله والشعب العراقي البار. وعمقت سطور كتاب سيرته، فهمنا وإدراكنا لعمق إنسانيته، التي لمسناها في مواقف متعددة خلال التجربة الأنصارية.
الكتاب لم يكن سيرة ذاتية بحتة، بل استرجاع لمراحل مهمةٍ من تأريخ الحزب، والنضال الوطني، في ظروف ما زالت محط إختلاف وتباينات داخل الحزب، وفي إطار الكفاح الوطني. فهو شهادة جديدة تمكننا من البحث الجاد الصادق المتجرد في سيرة ومسيرة حزبنا وإعادة تقييم مواقفه نحو آفاق أرحب. وكم نحن بحاجة إلى ذلك ونحن نمر بمرحلة معقدة أخرى. ...!!.
كلمات "أوراق توما توماس" أكدت معرفتنا به: مطاولة ونفساً كبيراً في الكفاح وحماساً متقداً رغم سني العمر حتى آخر لحظات حياته، رغم المصاعب التي واجهها. عنادٌ قيميٌ جليٌ بدا للبعض وكأنها القسوة، والإصرار على المبادئ. قدرته في العمل العسكري الأنصاري، وبراعته في وضع التكتيكات المناسبة في اللحظات الحاسمة. وهنا أذكر نصاً أورده في الكتاب حين يقول "كان المهم عندي، عدم الضعف، في اتخاذ القرارات المهمة، والخطيرة. وكان الأهم، عدم التسرع والتهور في إتخاذها" (ص92 من الكتاب).
وأخيرا ربما، من المناسب الذكر أنني، وهذا يؤلمني ويعيد ذكريات حزينة في الروح، وقبل وفاته ببضعة أشهر في العام 1996، كنت في القامشلي وعشت قريباً منه وسمح لي حينها بقراءة أولى مسودات كتابه وفي بيت ابنه العزيز سمير (حكمت)، ودونت حينها، بعض الملاحظات اللغوية والتعبيرية. حينها كنت قد عدت من شقلاوة بعد سفري إليها بضغط من الرفيقين العزيزين، عضويّ ل.م، حينها، الشهيد الجميل دائماً كفاح (سعدون)، وأبو حياة، بعد اجتياح قوات النظام الدكتاتوري لأربيل وبلوغه مواقع خطيرة، بتواطؤٍ وبسبب إقتتال الأخوة الأكراد ...!!. ولهذا ولمواقف ابو جميل (توما توماس) أحاديث لايتسع لها المجال.
وبعد عودتي إلى شقلاوة في ذلك العام، وبعد شهر أو شهرين سمعنا بحادث وفاته المأساوي. حينها بكيت بصمت ... وفي الروح انتفضت الكثير من المشاعر والمواقف... أعادتها حيوية كلمات هذا الكتاب الهدية والذي يتطلب قراءات أفضل له نحو تقييمات أجدى لمسيرتنا ولمستقبل عملنا ...
فلك أبا جميل حب وإجلال لم يخفت أبداً... فأنت حيُ فينا وباقية ذكراك في الألق ......!!!.