فضاءات

شاكر محمود البصري من المنزلة الاخلاقية العليا الى الاغتيال / جاسم المطير

اول مرة دخلت الى بيت شاكر محمود كان عام 1954 بعد نهاية اضراب طلابي رمزي، بمناسبة الذكرى السنوية لانتفاضة تشرين عام 1952. كان شاكر احد الفتيان الناشطين في اضراب مدرسته (متوسطة البصرة)، نال شرف عضوية الحزب على دوره في ذلك الاضراب بعد ان كان مرشحا . حال دخولي الى البيت وجدتُ امه قرب تنور البيت الصغير بمحلة المشراق، واقفة الى جانب شجرة وحيدة مثمرة. كان وجهها الاسمر محمرا، لا ادري هل كسب حمرته من شمس ذلك اليوم ام من نار التنور..
مدت عنقها لتقول لي بهدوء تام : اهلا بصديق شاكر ورفيقه.
امرأة قصيرة القامة، نحيفة، مبتسمة دائما.. احب الاشياء اليها عائلتها والشيوعيون كلهم. كما كانت تحب الشجرة الواحدة المزروعة في احدى زوايا الحوش . شجرة زاهية لا اتذكر ثمرها، لكنها على الاغلب نارنجة. كانت شجرة وحيدة في بيت شيوعي تنال الرعاية الكاملة من ام رؤوم تلاطف الشمس نهارا والقمر ليلا ، ثم يأتي منتصف الليل لتنام مع نوم راعيتها بدرية ام شاكر.
اول مرة اسمع كلامها.. اول مرة اسمع مثل هذه العبارة ترحيباً. لم استطع ان احمل السرور البالغ لهذا النوع من الترحيب البالغ، لكنني بقيت مكتنزا له حتى اليوم , ابلغت شاكر في ذلك اليوم بانه اصبح عضوا اصيلا في الحزب الشيوعي بعد اجتيازه فترة الترشيح الاختبارية بنجاح باهر.
في مجتمع مدينة البصرة ، كما في كل مجتمع عربي، توجد اختلافات اخلاقية متنوعة الاشكال والوجوه. توجد اخلاقيات بدوية وحضرية، ريفية ومدنية، طائفية وعشائرية، في كثير من الاحيان تكون هذه الاختلافات النوعية سببا من اسباب النزاعات والصراعات بسبب موقف هذا الشخص او ذاك من قضية معينة من القضايا المجتمعية، تبعا لتربيته الاخلاقية وتنوعها في مختلف مراحل حياته.
من تجربتي الطويلة داخل المجتمع الشيوعي – داخل تنظيمات الحزب الشيوعي في البصرة – وعلاقاتي مع عدد غير قليل من الشيوعيين، في القيادة وفي القاعدة امثال ناصر عبود، سلطان ملا علي، عبد الوهاب طاهر، رجاء عبد الرزاق، سامي احمد، نظيمة وهبي وناطقة المبارك وسميرة محمود وغيرهم. تعرفت الى الكثير من اشكال الاخلاقيات المتنوعة والصفات الشخصية المتنوعة .. تعرفت الى اخلاقيات الشيوعيين العمال او المنحدرين من عائلة عمالية.. تعرفت على شيوعيين فلاحين وعلى شيوعيين منحدرين من طبقة البورجوازية او من فئات البورجوازية الصغيرة.. كلهم مخلصون للشعب والوطن مثلما هم مخلصون صادقون مع اقرانهم ومع مجتمعهم، لكنني رغبت اليوم في مناسبة الذكرى 45 لاستشهاد المناضل الشيوعي الكادح شاكر محمود البصري عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي أن أكتب بتحديد معين.
لم يكن شاكر محمود من المثقفين حين تعرفت اليه، اول مرة، لكنه كان من حملة قيم خاصة تتمثل في الصدق والوفاء والاخلاص المتناهي والتضحية. كانت مبادئ الشيوعية قد ترسخت في قلبه وسلوكه. لم يكن تفكيره بورجوازيا، لكنه شديد الولع بصفات واخلاقيات المناضل الانساني العالمي المهاتما غاندي. الصورة الوحيدة التي يعتز بها، معلقة في بيته، هي صورة غاندي وكان قد قرأ في اول ايام فتوته كتابين عنه.
وجدت شاكر محمود شابا اتقن فهم الواقع الاجتماعي العراقي المتقد، على طريقة اتقان غاندي واقع شعوب ومجتمعات القارة الهندية.. اتقن شاكر محمود ظروف ومعاناة الاغلبية الساحقة من الشعب العراقي، التي تعاني فقدان الحرية والكرامة.
هذا الاتقان جعله - وهو طالب مدرسة متوسطة - ان يتجه نحو بصائر الشيوعيين من زملائه ليجد من خلالهم ان حزبا عراقيا اسمه (الحزب الشيوعي) هو حزب يضم مجموعة من الناس اتخذوا لأنفسهم اخلاقا خاصة، هي من صلب الاخلاق الانسانية. لم يكن هذا الانتماء يعني انه كان ينظر الى اخلاق الناس الاخرين غير الشيوعيين نظرة ادنى، لكنه وجد اتصالا بين اخلاقية عائلية خاصة تربى عليها، متوافقة مع تربية واخلاقية الحزب الشيوعي في الوفاء والتضحية. اليوم اكتب عن شاكر محمود البصري باعتباره نموذج الانسان الشديد الصلة بالأخلاقية الانسانية.
وجدتُ شاكر محمود في اول ايام معرفتي به انه كان قد وضع لنفسه، بنفسه، برنامجا خاصا لدراسة المجتمع العائش فيه. كان المجتمع الذي يعيش فيه صغيراً جدا ، محلة صغيرة يسكن فيها اسمها (المشراق). بيته قريب من بيت خالته ام حافظ. كل اولاد خالته الاطفال حافظ وامجد وفاروق واحمد واسيا وامنة، ينظرون الى ابن خالتهم نظرة خاصة، ملؤها التقدير والتعظيم. كانوا يعرفون ان صديقه الشيوعي انور طه البصري الموقوف في السجن المركزي ببغداد ليس من اقربائه، برغم ان الاثنين يحملان لقبا واحدا (البصري)، لكنه منشغل التفكير بتعذيبه ومعاناته على ايدي الجلادين في التحقيقات الجنائية. شاكر يتابع كل يوم اخبار عذابات صديقه انور من خلال زياراته المتكررة بيت انور ومحاولة التعرف على آخر اخباره، بالرغم من اختلاف صفات كل منهما. انور البصري مهووس بحب النكتة يرويها دوما حتى في ساعات الجد، بينما شاكر البصري يهوى سماع النكات وليس من رواتها.
اخبرتني شقيقته سميرة ان شاكر لا ينام ليلا الا بعد تقليب صفحات كتاب او منشور سري تحت يديه، بعد منتصف الليل، كأنما يسبح في تيار الافكار الشيوعية قبل النوم وبعد الاستيقاظ. في ذهنه ان الضرورة الشيوعية تفرض عليه ان يكون متمكنا من معرفة اخلاقها وآدابها وعلومها، من خلال القراءة المتواصلة والتثقيف الذاتي المتواصل. يعرف جيدا ان عضو الحزب الشيوعي لن يرتقي الى مرتبة حب الشعب الا بسماع صوته، من خلال الحصول على الثقافة اليومية المتواصلة. لذلك فقد ارتقى شاكر الى المسؤولية الحزبية، درجة بعد اخرى، حتى صار عضوا في اللجنة المحلية في البصرة قبل الانقلاب الفاشي في 8 شباط عام 1963 ثم اصبح عضوا في لجنة منطقة بغداد بعد هروبه من سجن نقرة السلمان، يوم كان مرسلا الى مستشفى الديوانية للعلاج فاستغل فرصة تحرير نفسه من قيود السجن بتصميم وشجاعة والالتحاق بالحزب الشيوعي في بغداد.
اتصف بكل الصفات الحسنة، تجد عنده شيئاً من كل شيء جيد في اوصاف الناس الطيبين. عنده كل الصفات المحمودة. عمله الحزبي لا يعرف كللا ولا مللا ولا الاستقرار الا حين ينجز بين الليل والنهار عملا حزبيا محددا.
اقول له: استرح يا شاكر ..حتى الطيور تستريح يا شاكر.
ينسى ماذا يجيب لأنه دائم التحديق في مستقبل الشعب الكادح. يعرف ان وحوش الاجهزة القمعية يترصدونه في الليل والنهار. ربما يمزقونه ذات يوم بأنيابهم الحادة.
كان يمشي في الشوارع حذرا مثل حمامة لا انين يسمع منه ولا دموع ، لكن شأنه الوحيد تنفيذ ارادته، ارادة حزبه. ارادته هي اداته الوحيدة في الحياة. لم يكن لديه شيء مقدس غير حقوق الانسان .. نذر نفسه للدفاع عن الانسان. في المجلس العرفي العسكري في البصرة عام 1956 قال امام هيئة المحكمة - كنت واحدا من الموجودين في قفصها – انني ايها القضاة احمل ذمة النضال من اجل ان يكون الانسان العراقي متمتعا بالحرية والكرامة.. اصدروا قراركم بالسجن عليّ وعلى هذه المجموعة من المتهمين، لكنكم لن تستطيعوا ان تحكموا على جميع ابناء الشعب.. انهم سيحاكمونكم يوما ما في المستقبل القريب ،كما استطاع الشعب المصري الشقيق ان يحاكم المسيطرين على مصر .. انظروا الى ثورة يوليو 1952 والى الثوار الذين حاكموا المجرمين بحق الشعب المصري الشقيق.
منذ اول شبابه كان صلبا وكانت المسؤولية الحزبية لديه هي فعل ووجود داخل الحزب وداخل العائلة الصغيرة.
45 سنة مرت اليوم على رحيل الرفيق شاكر محمود البصري. اتذكره، الآن، بكل ما يحمله من قيم فطرية طبيعية وقيم نضالية مكتسبة. بمعنى انني اتذكر معاني عظيمة من معاني الانسانية، معاني عميقة الغور من معاني الصفات والاخلاقية الشيوعية المتميزة.
تلتمس عيناي ، في هذه الايام، صورة شاب، كادح، يحمل طلعة مهيبة، يزخر عمره القصير بكل ما تفخر به الانسانية من محبة للناس والوطن ومن طيبة التعامل مع الناس وقوة الموقف في قضايا الوطن.
يصعب عليّ ان اصف هذا الانسان المقدام بهذه المقالة. انه شاب يملك عقلا واسعا اكبر من تجربته بكل مراحل عمره، فقد كانت عيناه بصيرتي النظر البعيد الى المستقبل. وفي سلوكيته حنان ورأفة ينطلق منها فيض من الرؤية الصائبة.. لا يخالجه شعور غير حرية الوطن وسلمية العيش فيه على اساس الديمقراطية. يتكلم بصوت هادئ خفيض، لكن قدميه تتحركان بسرعة وجرأة في المدن العراقية والارياف. لم اسمع منه أي شكوى من تعب او صداع، لكنه يشكو من غزارة الذكاء.
اول مرة ينغمر فيها شاكر محمود بسعادة تامة كان في يوم زواجه.. تزوج سريعا بعد فترة تعارف سريعة، عبّر فيها الحبيبان شاكر والهام عن مشاعر متبادلة. تعلق قلبه بفتاة تعيش في قلب مدينة بغداد ملكت صفات امرأة وجد فيها انها الاصلح، لتكون شريكة حياته النضالية القاسية. اختار حبيبة من سلالة اسرة وطنية عريقة في نبلها وفي علاقتها بصداقة قوية مع عناصر وطنية وديمقراطية وشيوعية كثيرة من العاملين في الحركة التغييرية العراقية، خاصة وان رب الاسرة هو المحامي المعروف احمد سلمان الراوي، الناشط الحقوقي في ميادين عديدة اولها نقابة المحامين باحثا عن العدالة والمساواة أمام القانون. كانت هذه العائلة، تستمد رؤياها من ينابيع ثورة 14 تموز ، من اعذب اناشيد وشعارات وشهادات الحزب الشيوعي العراقي. لم تكن زوجة شاكر (الهام الراوي) من ذلك النموذج من النساء الحالمات بنمط من الحياة الرحبة إذ كان صوت ابيها التربوي يقربها من رضا العيش في بيت متواضع ليكون لها فيه ركن من اركان المستقبل.
لم يتعرف شاكر محمود على طبيعة الحب والغزل قبل التعرف الى (الهام) فقد كانت اول فتاة يتعرف عليها في حياته ، كانت اول امرأة يقع في حبها. اتقن أوزان وقوافي الغرام بعد الارتباط العاطفي معها. بهذا الزواج تكونت عائلة صغيرة جديدة فيها رجل يتميز بالهدوء والشجاعة وفيها امرأة تتميز بالإخلاص والحنان.. كانت الزوجة ليست جميلة فحسب، بل كانت شخصية مرحة ، مبتسمة دائما، تعلمت من والدتها (ام حامد) امور العناية بالزوج والبيت والعائلة. كانت ارادتها قوية لخلق اسس السعادة الزوجية بالرغم من الظروف السياسية الصعبة والقاسية المحيطة بزوجها فقد وجدت ان في عبرات وعبارات زوجها نسيما جنوبيا وان في عينيه نظرات ثاقبة وانه انسان بأخلاق ناسكة .
كان شاكر يطري امامي جمال واخلاق وصفات من اختارها لتكون شريكة حياته ، يكرر كلمات المديح فيها، فقد وجد في نظراتها المتقدة حبا صادقا بعد أن تعلمت من ابيها وامها حبا واحتراما للشيوعيين، للمناضلين الشيوعيين.
اخبرني ذات يوم : انني كنت احلم بطيف من الجمال والحنان فوجدتهما في من اخترتها زوجة متكاملة الصفات نقية في انسانيتها.
اختصر القول : اوقعني الحظ في المكان الصحيح واخترت شريكة الحياة الصحيحة.
شعت البهجة في حياة شاكر محمود المشتركة مع الهام الراوي بعد يوم زواجه في 11 – 11 – 1969 حيث ادرك يومذاك ان المصابيح كلها والانوار كلها قد اضاءت له طريقا جديدا، طريق بناء عائلة عراقية جديدة.
انجبت زوجته ابنتهما اماني يوم 23 - 9 – 1970 جعلته يوما بهيجا تماما. وجدته في الايام التالية كأنه طائر بأجنحة من الفرح الابيض فقد صار اسمه (ابو اماني). ثم انجبت ابنهما محمود في 24 - 10 – 1972 .. بذلك صار شاكر محمود مسؤولا عن قيادة عائلة صغيرة.. صار زوجا وابا مجتهدا يحاول تنظيم وقته بين (العام) و(الخاص) . العام مكرس للحزب حيث تبوأ مركز عضوية اللجنة المركزية والخاص مكرس للعائلة، ملتزم تماما بنظام العمل الحزبي وبالمسؤولية العائلية في وقت معاً. كان مولعا بتلك الايام السعيدة من حياته بالمزاح مع افراد العائلة الصغيرة ( إلهام.. اماني.. محمود..) وقد وجدت ان شعلة من الحب تجددت في داخله لهذا الثلاثي، كما تجددت فيه اخلاقية الاندفاع والتقدم نحو عائلته الاولى امه واخته وخالاته وعماته وذكريات والده، الذي رحل مبكراً. شعر بنفسه انه يحب الجميع وان الجميع يحبه. كان اول المقتدين به هم اولاد وبنات خالته، فقد اصبح كل من (حافظ) و(فاروق) و(امجد) و(احمد) من رواد طريق شاكر محمود في النضال مع الشيوعيين، وكنت اشعر بالسعادة الحقة كلما اجتمعت او التقيت بعائلة ( ابو أماني)، كانت نعمة الفرح والسرور تعم الجميع.
امتلا قلب الشيوعي شاكر محمود البصري وعقله بالتوق الشديد في الركض نحو سهول العمل الحزبي الخصب، المدافع عن حقوق الكادحين العراقيين. لم يكن يهمل أي واجب حزبي و لا عائلي ولا أي واجب من واجباته الصداقية بالرغم من انه كان جزءا من الكادر السري في الحزب الشيوعي العراقي في تلك الفترة الصعبة، التي كان خلالها قادة البعث يتحولون الى وحوش كاسرة في غابة يسيطرون عليها بالحديد والنار.
مطلوب من الكادر الشيوعي شاكر محمود ان لا يلفت نظر احد اليه بكل تحركاته. امتلك شخصية مجتمعية خاصة. ظل هادئا يعمل على وفق نظام حركي متماسك، يتفاعل ويترابط مع افكار رفاقه الاخرين من الكوادر الحزبية العليا بسرية تامة، وقد اصبحت اخلاقه وعاداته بما فيها من الخيال والعواطف والصدق والامانة والاباء والتواضع وعدم المفاخرة صورة من صور تكيف الانسان مع محيطه الصعب المليء بعيون الرقابة الذئبية في نظام صدام حسين البوليسي الشرس، التي كانت تتابع وتراقب حركات المناضلين، وقد ظهر انهم يراقبون ويتابعون شاكر محمود من دون ان يدري حتى حل يوم 11 – 11 – 1972 الذي صادف عيد زواجه الرابع، فكانت محاولة اغتياله بنوع جديد من الاساليب البوليسية البعثية عن طريق دهسه بإحدى سيارات الاجهزة القمعية راحلا الى الخلود والابدية، لإرسال رسالة بعثية الى الشيوعيين مفادها انكم جميعا تحت ايدينا الضاربة.
رحل شاكر محمود البصري بعد أن امضى جهودا كبيرة وكثيرة من اجل ان يتحلى بأخلاق الشيوعية، اخلاق قادة الحزب الشيوعي ( فهد.. حازم.. صارم.. جمال الحيدري.. محمد صالح العبلي وسلام عادل) كان كثير الاستفسار عن حياتهم الاجتماعية لاستلهامها وفهم العمل القيادي واخلاقياته، كما كان كثير المتابعة بقراءة حياة بعض الشخصيات الراسخة في أعماقه مثل لينين وغاندي وبافل بطل رواية الام لمكسيم غوركي. قرأ جميع ما كتب عن هؤلاء وامثالهم حاملا اخلاقهم بكثافة في ذهنه وذاكرته طوال حياته القصيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 30 – 10 – 2017