![]() |
![]() |
في أمسية تميزت بالجدل والغوص في تاريخ العراق والكتابة الروائية استضافت مؤسسة الحوار الإنساني في لندن الروائي عبدالله صخي يوم 27-11-2103 للحديث عن تجربته الأدبية.
وقال الناقد عدنان حسين أحمد في تقديمه للكاتب إن "المحاضر رغم قلة إنتاجه إلا أن قصصه تميزت بالسردية الفنية العالية واللغة الصافية والحبكة القصصية، كما تميز الكاتب بالترجمة. ومن ضمن ما ترجم قصص لهيرمان هيسه، وباعتقادي أن أفضل من يترجم الجنس الأدبي من كان له باع فيه".
وأشار أحمد إلى أن روايتي عبد الله صخي (خلف السدة) و(دروب الفقدان) تركتا بصمة واضحة في المشهد الروائي وتميزتا بشخوصهما وبحبكة النص المحكمة.
وفي حديثه عن تجربته الروائية تحدث عبدالله صخي قائلا:
في ذلك الصيف البعيد من عشرينات وثلاثينات القرن الماضي وما بعدها قدم المهاجرون الأوائل، من أرياف جَنوب العراق وأهوارِه، إلى بغداد حالمين بحياة جديدة. كانوا قطعوا مسافات طويلة في عربات خشبية لها سقوف من شعر الماعز، تجرها خيول أرهقتها الدروب الوعرة والمستنقعات الجافة المتشققة، أو في قوافل من سيارات حِمْلٍ مستهلكة. كانت وجوه الرجال مغبَّرةً، ورُؤوسُهم ملفعةً بيشاميغ تنحدر منها جدائلُ مرصعة بالعفص والخضرم والودع، ولها نهايات تيبست من العرق والغبار، وعلى ذقونهم نمت لِحى كثة عَلِقت فيها أنصالُ التبن وأعوادُ القَش. كانت أجسادُهم نحيلة وملابسُهم ملوثة بالتراب. جاءوا هاربين، مع أبقارهم وحميرهم وجواميسهم، من الاضطهاد والملاحقة بعد ثورة العشرين. جاءوا هاربين من الاقطاع وعبودية الأرض ومواسم الزراعة التي تضاعف الخسائر والذل والديون. جاءوا إلى الآمال البراقة الوارفة في بغداد فسكنوا عند خاصرتها قرب ساحة الطيران، خلف السدة التي بناها الوالي العثماني ناظم باشا عام 1910 لحماية المدينة من فيضانات النهر السنوية الجارفة. وفي ذلك الشريط البري المفتوح المتصل بالأفق شيدوا صرائفهم وأكواخهم من القصب والبواري والطين وسعف النخيل فنشأت بلدة تكونت من قسمين "العاصمة" و"الميزرة" تفصل بينهما المستنقعات وخط سكك حديد بغداد كركوك الذي ألغي لاحقا. وبعد سنوات قليلة استقرت ونمت وازدحمت، ثم اشتهرت بالمعتقل الذي بنته السلطات في أطرافها الشرقية والذي اتخذ اسمَه منها: معتقل خلف السدة. هناك في أحد أكواخ ذلك الحشد المأساوي، وسط الظلام والسرجين والمزابل والقمل والبرغوث والصئبان وُلدتُ في العام 1951.
في أواخر ذلك العقد كان علي أن أشق طريقي كل يوم إلى المدرسة الابتدائية النائية بين قطعان الكلاب الضارية المتوحشة والجواميس المتجهمة الغاضبة. وأوضح الكاتب كيف أن المعلم أرشده لقراءة القصص، وكان أول كتاب يقرأه قصة "الأميرة والثعبان" التي قرأها في الليل خلسة متعجلا على ضوء خافتٍ رجراجْ ينبعث من فانوس قديم قبل أن تُطفِئَه أمه.
وأضاف قائلا "انقطعت عن قراءة القصص لكني لم انقطع عن الاستماع إلى حكايات النسوة المسنات في الجوار اللائي كن يزرن والدتي كل ليلة بعد العشاء". ولكنه عاد إلى القراءة بعد انتقالهم إلى مدينة الثورة أوائل الستينات.
ففي المدينة الجديدة كما يقول صخي "كان لصديقي شقيق يحدثنا عن العقاد وطه حسين وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ والجواهري والزهاوي. يومها أعارني رواية اسمها (لقيطة) لمحمد عبد الحليم عبد الله. وحين أعدتها إليه أعطاني مجموعة من الكتب أذكر منها شجرة اللبلاب، ماجدولين، تحت ظلال الزيزفون، دعاء الكروان. استعذبت ذلك العالم فأخذت تشغلني الحكايات الجديدة التي لم تكن تشبه حكايات النسوة المسنات.
ومن خلال فتى يبيع الكتب المستعملة في شارع الرشيد قرأت روايات مثل عمال البحر، أحدب نوتردام، الزنبقة السوداء، كوخ العم توم، والآمال الكبيرة.
وأضاف في تلك الأثناء كانت الحكاية تنمو من حولي فتأخذ ثيمات مختلفة، وهكذا ظلت الحكاية بالنسبة لي كالأم الجأ إليها في لحظات الشوق والسأم والخوف حتى جاء يوم انفض فيه منتدى الحكاية وتفرق الفتية، رواد الكلام، وعاد الجنود من ثكناتهم بإجازات ليعقدوا مجالسَهم الليلية ويرووا لنا حكاياتٍ جديدةً في الظلام قرب سُرادق المآتم أو تحت الضوء الشحيح لأعمدة الكهرباء. تلك الحكايات ستجد صداها في عدد من القصص التي نشرتها في الصحف العراقية أواسط السبعينات ثم ضمتها مجموعتي الأولى وعنوانها "حقول دائمة الخضرة".
"ذلك أنني، وفي إطار بحثي عن الحكاية التي أتطلعُ إليها، عثرت على نماذِجِها الحديثة، النموذج الموباساني ثم التشيخوفي، بعدها سحرني ذلك النموذج في صيغته العراقية".
وفي المدينة الجديدة أصبح أولئكَ الفتية، أبناءُ المهاجرين الطالعين من الغَضار والأحراش والرماد، أحفادُ الرجال الذين تحدروا من أزمنةِ القصب والأسماك والمياه والقمح والنخيل، أصبحوا
متجهمين نزقين عندما اكتشفوا أن حياتهم لم تتغير، وليس ثمة في الأفق ما ينبئ بتغييرها، بل استمر الفَقر ينهش قلوبَهم الصغيرةَ العامرةَ بالآمال. كانوا يتطلعون إلى اليوم الذي يحصلون فيه على عمل لكنهم وجدوا أنفسَهم في الطرقات بلا ظل أو مورد. كانوا مستلبين مقموعين في البيت والمدرسة والشارع والمقهى والسوق ما خلق لديهم شعورا بالتمرد والعصيان فأنهمكوا في مواجهة السلطة، أيةِ سلطة مهما كان نوعها. إنهم نبلاء ومتسولون، أوفياء وغدارون، صالحون وطالحون، يدافعون عن الشرف وينتهكونه، يمارسون قيم الفضيلة وينتصرون لغيرها، يأملون بالفرح وحين يأتي يحولونه إلى مأتم، يستجيبون لنداءات بعضهم في لحظات صفاء نادرة، وفي لحظات أخرى يمزقون أجسادَ أصدقائهم ومعارفهم بالسكاكين أو يشلون أعضاءهم بالخناجر. في المدينة الجديدة، مدينة الثورة التي اتسمت بالدفء والشراسة وجد الناس أنفسهم بين حصارين، حصار السلطة التي سعت بكل قوتها إلى ترويضهم وإخضاعهم، وحصار القلق والخوف من ترحيل جديد بعد الإعلان الرسمي عن أن المدينة تعوم فوق بحيرة من النفط. في هذه الأجواء، التي اخترقتها موجة اغتيالات سياسية بعد العام 68 ثم التحالف السياسي الكئيب بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم آنذاك في إطار ما أطلق عليه (الجبهة الوطنية) واصلتُ متابعةَ حياة عائلة مكية الحسن وابنِها علي سلمان بطلي رواية "خلف السدة" في رواية (دروب الفقدان). إني هنا اقتفي آثار تلك الرحلة المضنية التي بدأها المهاجرون الأوائل إلى بغداد ومعاناتِهم من أجل بقاء احلامِهم على قيد الحياة بعد أن أخذت تتكسر وتتهاوى. إنها سيرة جيل، تعرض في فترة السبعينيات إلى الاضطهاد والتعسف يقابله سعي علي سلمان الدؤوب من أجل إنهاء دراسته الأكاديمية وتعلم الموسيقى. لقد حاولت أن أرصد التغيرات التي طرأت ليس فقط على مدينة الثورة، التي اتخذْتُها ذريعة، بل على المجتمع العراقي كله. أردت أن أكشف قدرة الإنسان على تحدي القهر والعبودية والبؤس، أن أكشف عبقريةَ الإنسان في مواجهة الألم".
وفي رده على أسئلة الجمهور أوضح صخي أنه في روايته الجديدة (دروب الفقدان- دار المدى 2013) قد أهتم بالنص المدور الذي يسمح له بتقديم مقطع اجتماعي عرضي واسع للحد الذي يوقف الحديث عن شخصية ما ليروي تفاصيل عن شخصية أخرى ثم يعود إلى الأولى. وأشار الكاتب إلى أن روايته الأولى (خلف السدة) هي رمز للعراق منذ تكونه الجديد عام 1921، فتلك السيرة ترينا أنه لم يحدث في هذه البلاد تطور حقيقي يمس حياة الناس رغم الثروات الكبيرة التي أنفقت على الأسلحة والحروب والمصالح الشخصية، وكذلك بسبب غياب التخطيط والإرادة.
وحول مسألة النزوح إلى المدينة قال الكاتب إنه بصرف النظر عن كون الهجرة الداخلية غير المفروضة صحيحة أم خطأ فهو مع المشروع الإنساني ومع العدالة للجميع دون استثناء. ومن مسؤولية الدولة توفير الحياة الكريمة لمواطنيها في أي بقعة كانوا.