فضاءات

قصة لا تنتهي .. التقاعد والمتقاعدون / مسلم عوينة

لا يهدف هذا الموضوع الى بيان ما يسببه العسر المالي للمتقاعد من معاناة يومية في ظروف لهيب الأسعار المضطرم , وإنما يدور الحديث حول الأموال التي تراكمت وتتراكم لحساب مديرية التقاعد العامة لدى الخزينة المركزية. ما هو مصدرها ولمن عائديتها؟ في ثلاثينيات القرن المنصرم أُصدر قانون التقاعد المدني , الذي قضت أحكامه باستقطاع ما نسبته 7 بالمئة من راتب الموظف الشهري وراتب المستخدم المعين على الملاك الدائم , ويضاف اليه ما يعادل ضعفه يُستوفى من رب العمل الذي هو " الدولة " وتُحوّل هذه الإستقطاعات ومضاعفاتها شهريا الى مديرية التقاعد العامة , وبصرف النظر عما إذا سُجلت تلك المبالغ إيرادا للخزينة أم أنها تُسجل في حساب الأمانات أو غيرها , فإنها أموال تعود ملكيتها لمنتسبي الدولة لأنها استُقطعت من رواتبهم لتُصرف لهم بصيغة راتب تقاعدي شهري بعد الإحالة الى التقاعد.
وفي سنة 1955 تم تشكيل " هيأة صندوق احتياط المستخدمين " لتودع لديها المبالغ التي تقرر استقطاعها شهريا من رواتب وأجور المستخدمين المعينين على الملاك الموقت وكذلك المعينين باجور يومية ، ورُبطتْ هذه الهيأة إدارياً بوزارة المالية ، لكن هذا الصندوق غير خاضع للحسابات الحكومية والخزينة المركزية ، وتُرسل المبالغ المستقطعة شهريا مع الاضافات القانونية الى الصندوق ، وعند انتهاء خدمة المشمول به تصرف له المبالغ المتراكمة لصالحه مع فوائد التوفير المستحقة ، دون ان يخصص له راتب تقاعدي ، واتبعت الدوائر ( شبه الرسمية) نفس النظام . وفي سنة 1959 اُصدر قانون صندوق التقاعد الذي أُسست بموجبه (المديرية العامة لصندوق التقاعد ) لتحول اليها الاستقطاعات المحسومة من رواتب موظفي الدوائر شبه الرسمية إضافة الى المستقطع شهرياً من مستخدمي دوائر الدولة كافة حيث تم الغاء هيأة صندوق احتياط المستخدمين المذكور انفاً وحُولتْ الاموال المتراكمة لديها الى المديرية العامة لصندوق التقاعد، وهكذا اصبح جميع منتسبي تلك الدوائر يتقاضون الرواتب التقاعدية عند الاستحقاق . وبعد صدور قرارات التأميم سنة 1964 تضاعف عدد المشمولين بأحكام قانون صندوق التقاعد عدة مرات ، نظراً للعدد الغفير لمنتسبي المنشآت والشركات المؤممة ، وتبعا لذلك تضاعفت ايرادات الصندوق مرات عديدة ، مما حفّزإدارة الصندوق الى استثمار هذه الاموال الطائلة في ثلاثة إتجاهات استثمارية وهي: أـ الاستثمار العقاري وبعد مدة من الزمن اصبحت تمتلك عدداً كبيراً من العقارات.
ب ـ المساهمة في اسهم الشركات المساهمة ذات الاوضاع المالية الرصينة.
جـ ـ الودائع الثابتة لدى المصارف وسندات القرض الصادرة عن الخزينة المركزية ، وقد اثمرت السياسة المالية والاقتصادية التي اتبعتها هذه المؤسسة دفقاً مالياً هائلاً وتراكمَ اموالٍ واسع النطاق يضاف الى الاستقطاعات الشهرية التي ترد اليها من جميع المؤسسات وشركات القطاع العام . يتضح ان مصادر الاموال التي وردت الى المديرية العامة لصندوق التقاعد ومديرية التقاعد العامة ، تعود ملكيتها لمنتسبي الدولة من كان منهم متقاعداً ام مستمراً في الخدمة ، وان الرواتب التقاعدية التي تُسدد شهرياً الى المتقاعدين ، انما هي اموالهم تُردُّ اليهم ، ولا علاقة للخزينة المركزية بهذه الرواتب اي انها لا تتحمل ايّ جزءٍ منها ... وبعد ان نضبت احتياطيات الدولة المالية بسبب استمرار الحرب الكارثية مع ايران بدأت الحكومة تبحث في كل زاوية وخابية عن اموال تساعدها في تسديد نفقاتها الهائلة وتقليص الاعتماد الكلي على القروض... فألتفت قائد النظام آن ذاك الى هذا المتراكم المالي الهائل فوجده كنزاً لا مبرر للتغافل عنه ، فبادر الى اصدار قراره بدمج المديرية العامة لصندوق التقاعد بمديرية التقاعد العامة ، وإلغاء صفة شبه الرسمية الخاصة بالمؤسسات المستقلة مالياً واعتبارها دوائر رسمية تابعة للدولة ومرتبطة بالخزينة المركزية واعتبار جميع منتسبيها مع منتسبي منشآت القطاع العام موظفين بالدولة خاضعين لقانون الخدمة المدنية والغاء الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها بموجب قواعد الخدمة التي كانت سارية في مؤسساتهم , ومن ثَمَّ تسجيل تلك الأمال لحساب الخزينة المركزية , وقد تم التعتيم على سلبيات تلك الإجراءات بصخب إعلامي من الإنبهار والتمجيد للمعجزات التي يحققها (القائد الضرورة) تحت شعار ترشيق جهاز الدولة! يتضح من ذلك ما يأتي :
1- لا يشكّل الراتب التقاعدي منحة أو هبة من الحكومة للمتقاعدين , فالمتقاعد لا يستجدي الرحمة والعطف , ولا يمد يده لتلقّي الصدقة , بل أنّه حقه , يُردُّ إليه راتبا تقاعديا شهريا , وهو يريد أنْ يكون هذا الراتب بالمستوى الذي يحقق له العيش الكريم , علما أنّ مديرية التقاعد لاتباشر بالصرف للمستحق إلاّ بعد أنْ تتأكد أنّ الإستقطاعات التقاعدية محسومة من صاحب العلاقة و مسددة اليها مع الحصة القانونية المترتبة على دائرته .
2- استثمرت الدولة هذه المبالغ في العقارات , وسندات الخزينة , والأسهم في الشركات المساهمة , والودائع الثابتة لدى المصارف , وأنّ عوائد هذه الإستثمارات هي أيضا جزء من حقوق المتقاعدين بذمة الدولة .
3- على ذوي الشأن إيضاح هذه الحقيقة لصندوق النقد الدولي الذي توهم أنّ هذه الرواتب دعما من خزينة الدولة لهؤلاء الناس .
4- على افتراض أنّ النظام السابق قد نهب تلك المبالغ , فإنّ هذا لايعفي الدولة من مديونيتها للمتقاعدين .
5- أٌصيب المتقاعد بالغبن الفاحش وعانى شظف العيش في ظروف النظام السابق , بسبب بقاء الرواتب على ما هي عليه بينما انفلت تصاعد وتائر التضخم , وحينما أشرقت شمس العراق الجديد واجه المتقاعدون وضعا أشد إيلاما , وأشد غمطا لحقوقهم فالقانون الجديد كان من الثمار الفاسدة لعراقنا الجديد , حيث صَنَّفَتْ أحكامُه المتقاعدين الى طبقات ومراتب ! فمتقاعدون سابقون , ومتقاعدون لاحقون , و تميّزٌ في الحقوق والإمتيازات , ناجم عن ذلك التصنيف الذي لايقره الإنصاف ولا تقره قواعد العدالة , ولايبرره منطق , ولا يتضح الى أيّ سند في ذلك يستندون !! كفى إبقاء المتقاعد تائها بين عراق عتيق وآخر جديد , يبدو أنّه ــ مع الأسف ــ يترسم خُطى العتيق ! فلا يحفظ للمتقاعد حقا ولايصون كرامة , ولا يبعث أملا . أليس غريبا ومفارقة أنْ لانشعر بالفرق بين العهدين ؟! بل أنّ المتقاعد لاحظ أنّ الوضع الجديد يراه كائنا طفيليا يثقل الكاهل ! وذلك لجهله بحقيقة الدين الذي للمتقاعد بذمة الدولة , وهي ملزمة بتسديده عند الإحالة الى التقاعد وفق أحكام القوانين , ولا يحق لأية جهة خارجية أو داخلية الإعتراض على رد الحقوق الى أهلها , وعلى المسؤولين إيضاح هذه الحقيقة لصندوق النقد الدولي .
6- يتقاضى عضو مجلس النواب الملايين شهريا من الخزينة العامة طيلة مدة الدورة النيابية , ومن ثمّ يتقاضى الملايين لاعتباره متقاعدا , دون وجه حق فمدة عمله هي أربع سنوات يقضيها في أعلى درجات الترف والبذخ , إضافة الى الغيابات المتكررة والكثيرة بسبب وبدونه ثم يدخل تحت ظلال التقاعد الوارفة , في خير عميم وترف ونعيم , ولا أحد يعرف وفق أي منطق يحصل هذا ووفق أيّ عرف في أيّ مكان من المعمورة !!! بينما يبقى مترددا ,متملصا من إقرار قانون منصف للمتقاعدين , وهم قد خدموا الدولة خمسا وعشرين سنة أو تزيد ليبقوا في مواجهة الفاقة وشظف العيش !!!
وبقي قانونهم المقترح في مهب الرياح بين أدراج السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية, ولا أحد يعرف متى ستستفيق الضمائر وتُصان الحقوق ...
6- مما يثير الإنتباه أنّ المتقاعدين في العراق ,على امتداد عشرات السنين لم يرفعوا أية شكوى , ولم يدّعوا أنّ حيفا لحقهم بسبب تنفيذ أحكام قانون التقاعد , لكنهم واجهوا الغبن والحيف بعد التصاعد الجنوني لوتائر التضخم , حتى غدا ما يتقاضاه المتقاعد وكذلك الموظف المستمر في الخدمة لايسد نفقات بضعة أيام ... وكانوا يأملون من العراق الجديد خيرا , لكنّ أملهم خاب , وأحلامهم غدت محض سراب لأن هذا العراق أغدق نعماءه على فئة صار بيدها النفوذ والإمتيازات والسطوة فراحت تقرر لنفسها ما تشاء وتهوى ... ولم يجد المتقاعدون إلاّ أن يرفعوا أصواتهم مطالبين بالإسراع في إصدار قانون التقاعد المعدل ,على أنْ يضمن لهم العيش الكريم لما تبقى من أعمارهم .