فضاءات

السمك المجفف "المسموطة".. نكهة وحكايات / جاسم عاصي *

(المسموطة) من الفعل سمط، ومسموط يعني مطبوخ، أي وضع في الماء الحار فتأثر لحمه، وتأتي هنا نضج واستوى، وأصبح جاهزا ً للأكل. والمسموطة غذاء اعتاد عليه الناس في جنوب العراق، كوجبة مهمة وذائعة الصيت في الأوساط الشعبية، تتفنن النساء في طبخها وإعدادها. حيث يجتمع على مائدتها أفراد العائلة لا سيما في أيام العطل كالجمعة، إذ تتوفر الفرصة للقاء. وهي تحظى بالطقوس، وجبة السمك الطري المشوي بواسطة (التنور) نفسها. إلا أنها تتطلب فقط ، تقديم أطباق من السمك المجفف والمطبوخ بعناية تامة يضاف إليها أرغفة الخبز الحار ورؤوس البصل الطري (الأخضر) أو الجاف.
وتعد المسموطة أيضا من الوجبات التي يـُكرّم بها الأعزاء من الأقارب والأصدقاء. وقد يتندر الأصدقاء ويراهنون بعضهم، ويكون ثمن الرهان وجبة من المسموطة يدعى لها أولئك الأصدقاء .
ولعل الأسباب التي دعت إلى تجفيف السمك بهذه الطريقة، هي جانب اقتصادي بحت، بسبب وفرتها في الأسواق ورخص ثمنها. فالناس يتواصلون بتقديم وجبات السمك الطري ضمن وجباتهم الغذائية كمكمل للوجبة الواحدة، وإعداده قليا ً بالدهن الحر، أو شيا بالتنور أو تطبيقا ً مع الرز وتسمى «مطبكَـ سمج». وبسبب هذه الكثرة يعمد الناس إلى التجفيف ، لوقت يندر فيه السمك وهي مواسم وضع الأسماك بيوضها، ما يمتنع الصيادون قليلا ًعن الصيد في الأنهار، فيرتفع سعره، ويدفع هذا الأمر بالناس لتقديم السمك المجفف كبديل مؤقت.
لكن سرعان ما ينتهي هذا الموسم ويبدأ موسم التكثير والمسمى بـ (الزرّة ) أي كثرة السمك في الأنهار متزامنا ً مع صعود مناسيب المياه.
وأتذكر في خمسينيات القرن الماضي، زادت ( زرّة) السمك وكثـُرت مياه الأنهار، فكنا نخرج إلى منطقة تسمى (الموحية) وهي بحيرة ماء تقع في طرف المدينة الشمالي، تتزود بالمياه وقت الفيضان أو ازدياد منسوب الفرات. وهي عبارة عن بحيرة مترامية الأطراف، مجاورة لنهر الفرات في مدينة الناصرية، تأخذ مياهها من النهر، وكنا نخوض في مياهها التي تصل حد الركبتين. إذ نرى السمك يتزاحم بين أرجلنا صغارا ً وكبارا ً، فما علينا إلا أن نمدَّ أكفنا إلى عمق الماء، ممسكين بالسمك وممعنين النظر في حجمه. فإذا كان بحجم متوسط وضعناها في الكيس المصنوع من الخيش المخصص لذلك، أي تكون السمكة المقبولة بطول ثلاثين سنتمترا ًعلى الأقل. وهكذا نجمع السمك عائدين به إلى بيوتنا ً، حيث يؤكل بعضه، والبعض الآخر تُنظّف بطونه وتـُغسل ثم يملح ـ أي يوضع عليه الملح ـ و يـُعلّق على الحبال أو الجدران لغرض التجفيف.
ويستمر هذا العمل لأسابيع عدة ، فتكون حصيلتنا من السمك الكثير الفائض عن الحاجة. وأتذكر في الخمسينيات، زاد موسم ( الزرّة ) من السمك حتى وصل سعر السمكة بعشرة فلوس، وعند عدم توفر الاستجابة للشراء خـُفّض السعر إلى خمسة فلوس. ولما لم تتوفر الاستجابة أيضا ًللسعر الجديد أعلن قرار توزيع السمك مجانا ً. ورغم هذا الإغراء في التقديم، إلا أن الناس لم يستجيبوا لهذا النداء، ما اضطر عمال البلدية إلى حمله بسياراتهم ورميه خارج المدينة وحرقه أكداسا ً خوفا ً من التلوث وانتشار الرائحة العفنة نتيجة تفسخ السمك. فقد كانت البيوت مليئة حبالها بالسمك، كذلك الجدران سواء كانت من الطابوق أو الطين أو ـ الخص ـ وهو جدار يبنى من القصب والبواري ويُحفر له خندقا ً في الأرض، يُثبت فيه كجدار. يترك الناس السمك حتى يـجف تماما ً، بعدها يـُخزن في أكياس الطحين الكبيرة أو أكياس ـ الخيش ـ القابل للتهوية ويـُعلّق في زوايا البيت أو أركان الطارمات ليكون عرضة للهواء دائما ً.
في موسم الشتاء يـُقدِم الناس وجبات الطعام هذه سواء منفردة أم مع الوجبات الأخرى. وثمة مجموعة من الناس يـُجففون السمك لأجل المتاجرة فيه في المواسم، حيث يطرحونه في الأسواق ضمن كل المواد المجففة كالبامياء والثوم والطماطة وغيرها. وبعضهم خصص له دكاكين للعرض. وهي ممارسة ما زال الناس يعملون بها.
وفي يوم من الأيام زرت الناصرية وتجولت في أسواقها وشاهدت كيف تعرض النساء بضاعتها من السمك المجفف، على الطريقة التالية: بأن تطرح الكيس الحاوي للسمك إلى جانب بقية المواد المعروضة، مع طرح أنموذج منها على ظهر الكيس. وهو عبارة عن أجساد لسمك كبير نسبيا ً يتخذ له هيئات مختلفة كالمنحوتات بعيون مفقوءة.
يـُجفف السمك على مختلف أحجامه ، حتى يشمل السمك الصغير (الحرش) بعد أن يـُنظـّف ويصنع منع قلائد بخيوط من الخيش وتشد نهاية الخيط ويُعلق على الجدران حتى يجف، ثم يـُخزن في الأكياس.
أما الصغار جدا ً منه ويسمى ـ الزوري ـ فيـُدمج مع عجين الطحين ويـُخبز كما هو طعام اللحم بالعجين الآن أو خبز باللحم.
* عن موقع نبراس الذاكرة